ثلاث ممرضات جميلات، نسمة ملاك وإكليل. طلبنَ التحدث إلى الدكتور سعيد، نائب مدير المستشفى. متوسط الحجم، في الخمسين، مبتسم وطيب القسمات.
– ها، ماذا تردن؟
تقدمت نسمة وكانت أكثرهن جرأة.
– دكتور هاني..
انتفض الدكتور سعيد
– ماله!؟
أطفال عنبر مرضى القلب يسألون عنه بإلحاح، لا نعرف ماذا نجيب.
– بعضهم يرفض الطعام والدواء.
قالت ملاك.
نظر د. سعيد إلى السقف بتردد:
– سآتي بعد ساعة وسأحدّثهم.
هاني، ذلك الطبيب الخجول والنحيل، عمل معهم منذ ما يزيد عن شهر. الأطفال يحبونه.
في الصباح والمساء، ومن ثم في الأيام الأخيرة ينام في العنبر. يغني معهم ويحكي لهم حكاية. حكايات لها جذور في ذاكرته، لكن في كل مرة يضيف ويضيف، ويحكيها بطريقة مختلفة، تبدو الحكاية جديدة، تنويعات على اللحن نفسه. البنات والأولاد لا تتعدى الأعمار ثماني سنوات أو تسعًا. وجوه محتقنة وأنفاس متعبة لاهثة، أمراض قلبية خلقية أو مكتسبة من روماتيزم.
البنات يطلبن حكاية الأميرة بدور والباب المسحور، يحكيها وكلٌّ تتخيل نفسها بدور. بعض الشقيات كنّ ينادينه بدكتور رز بحليب.
تابعت الممرضة ملاك وهي تحضر له كل صباح طبقًا صغيرًا من الرز بالحليب.
الأولاد يحبون حكاية علي بابا والأربعين حرامي، بل ويغنون معه بأصواتهم الضعيفة:
– “هيه.. هيه علي بابا..”
أو
– “مين يعادينا.. مين مين..”
أحداث متلاحقة حدثت في المدينة، مظاهرات واحتجاجات. شاركَ في بعضها. اعتقالات من شباب الجامعة والمدينة. أسرّ له دكتور سعيد، وكان ابنه قد اعتُقل أيضًا:
– أنت مطلوب يابني، ابني بعث لي رسالة سرية.
ثم وهو يربت على كتفه:
– تستطيع أن تنام هنا.
حدث هذا.
قبل المرور على الاطفال، فطور اكليل، رز بحليب وساندويش على الغداء من إكليل، وعشاء دافئ من نسمة، وقت أطول مع الأطفال.
وقف دكتور سعيد أمام الأطفال في العنبر، إلى جانبه نسمة، ملاك، وإكليل.
– دكتور هاني لن يأتي بعد الآن، قبضوا عليه.
ضجّ الأطفال بنينَ وبناتٍ.
أشار دكتور سعيد بيده، ساد هدوءٌ.
– لا تقلقوا، سيخرج، لكنه سيُرحَّل.
ساد صمت.
– إلى أين، إلى .. إلى… هو فلسطيني!
قالت طفلة بصوت ضعيف.
– إلى فلسطين!؟
زعق طفل:
– لا يمكن، لا يمكن!
الطفلة التي وشت به وطبق رز بحليب زعقت بصوت رفيع:
– إلى أين إذن!
أغمض دكتور سعيد عينيه:
– بلاد الله واسعة.
كان يهمس.
ثم بصوت يكاد أن يكون مسموعًا:
– إلى بلاد الله الواسعة.
*شاعر وقاص فلسطيني يعيش في الارد