يشكل الدين في مجتمعاتنا العربية ركناً أساسياً في حياتنا الاجتماعية والثقافية وصولاً إلى سلوكاتنا الشخصية في تفاصيلها المملة أحياناً، ما يطرح العديد من التساؤلات التي تبدو الإجابة عنها ملحة، ومن بينها وظيفة السياسة، هل هي فن إدارة المجتمع والدولة وعلاقتها بمصالح المواطنين؟ وما موقع الدين ودوره في الحياة الاجتماعية فعل إيمان وانعتاق وبالتالي عبادة وخلاص من هواجس الآخرة؟ وعطفاً على ذلك ما علاقة الدين بالسياسة؟ وهل ثمة حد فاصل بين ما هو مواطن وما هو سياسي؟ تبدو الإجابة هنا أكثر صعوبة إذا عطفنا المسألة على ما نمرّ فيه حاليا في الكثير من مجتمعاتنا العربية بعد الحراك الشعبي، وما أنتج من سلطات مستجدة في غير نظام عربي .
ومن البديهي القول إنه من الصعب بمكان فصل الدين عن السياسة في مجتمعاتنا العربية – الإسلامية لاعتبارات فقهية وشرعية لا داعي لتفصيلها، لكن القضية تبدو أكثر واقعية عندما تعالج من زوايا مختلفة ومنها، هل يمكن المواءمة بين العمل السياسي في مجتمع تسوده معتقدات دينية وإمكانية قيام دولة مدنية حيادية تستوعب مجتمعاً مدنياً مستقلاً هو الآخر؟ من حيث المبدأ أمر ممكن عندما تكون سلطة الدولة حيادية بين شرائح مجتمعها، وعبرها تفسح في المجال للتنافس الديمقرطي بين الأحزاب للوصول إلى السلطة وتداولها بالطرق الديمقراطية المتعارف عليها .
لكن المشكلة تثار عندما تستقوي جماعة سياسية بالدين، فتسيّس التدين الاجتماعي وتحرف الإيمان الإنساني عن مساره الطبيعي، فتكون بذلك قد تجاوزت وحرّفت معنى السياسة وأصولها، ومعنى المجتمع المدني وقواعده، فتستقوي بالدين على الجماعات الأخرى التي تؤمن بالسياسة المدنية وطرقها وبأسلوبها السلمي لجهة التنافس، وبالتالي تُغيّر قواعد اللعبة السياسية المتفق عليها في نظام ديمقراطي وبالنتيجة تعطيل الحياة السياسية .
إن العودة إلى التاريخ تظهر أن ظاهرة الاستقواء بالدين تمثلت في مختلف حقب السلطنات الإسلامية، وأكملت بصورها المختلفة هذا الاستقواء في مختلف الحقب السياسية التي رافقت ظهور دولنا الحالية، مع بعض الاختلافات الطفيفة بين حالة وحالة، إلا أن ما يجمعها حالياً حالة الاستقواء التي وصلت إلى مستويات الاستبداد السياسي التي عانت منها هذه الفئات الإسلامية نفسها قبلاً، فبدت حالات الاستقواء أشد عنفاً وقسوة في محيط اجتماعي لا يتحمل ثقل الضغوط الممارسة عليه .
حالياً يمكن ملاحظة هذا الاستيلاء في المجتمعات الإسلامية المعاصرة . فعندما يلجأ العمل السياسي الإسلامي إلى الدين أداةً ووسيلةً، في التعبئة بمختلف أوجهها، الإعلامية والثقافية والتعليمية والاقتصادية وبرامج الخدمات، تصبح الحالة الحزبية الإسلامية الجديدة التي وصلت إلى السلطة، شكلاً من أشكال الاستيلاء والاستبداد وهي تعابير متطابقة للتي ظهرت في كتابات مؤرخي الإسلام وفقهائهم، كتوصيف “إمارات الاستيلاء وسلطنات التغلب” .
ولنكن هنا منصفين في هذا المجال ، فظاهرة الاستقواء السياسي بالدين شملت كذلك الأحزاب القومية التي سادت بعض انظمتنا العربية في فترة من الفترات، فغالباً ما كانت تلجأ في شعاراتها السياسية إلى مزج الدين بالسياسة في محاولة للتحفيز الجماهيري وأحياناً كثيرة للتلطي وراء هذا الفشل أو ذاك . وبالتالي باتت هذه الظاهرة معممة على من تسلّم السلطة ماضياً وحاضراً .
إن ما سبق يجعل من هذه الإشكالية إشكالية خطيرة تتجاوز الجانب النظري بكونه إشكالاً معرفياً وثقافياً وحتى حضارياً، ليصبح في التطبيق العملي والممارسة الفعلية وفي سياقاته التاريخية، عاملاً محبطاً للسياسة، وعنصراً لاغياً للمجتمع المدني والسياسي وللمواطنية أيضاً، ومحوّلاً الناس إلى كتل بشرية متنافرة وطوائف مستنفر بعضها على بعضها الآخر . وأمثلة العراق ولبنان بارزة بوضوح، ومجتمعات مصر وليبيا وسوريا وتونس والجزائر والمغرب تقدم مثالاً واضحاً مفاده أن الدولة مؤسسة هي المستهدفة .
ثمة كلام كثير يُقال حول جدلية العلاقة بين الدين والسياسة والدولة والسلطة ومن يتسلّمها، ومن يحكم بها من معه ومن ضده، لكن الثابت في هذا المجال أن أحزابنا الموالية والمعارضة التي حكمت سابقاً وحالياً، لم تقدم حتى الآن جديداً يروي شغف المواطن العربي إلى الوسيلة التي تريحه في حكم نفسه بعيداً عن استقواء الدين بالسياسة، مثلما هو حاصل اليوم في معظم مجتمعاتنا العربية .
عن الخليج الاماراتية