قرأت مقالة وصلتني عبر رسالة الكترونية عن استغلال المخابرات الإسرائيلية مواقع التواصل الاجتماعي في تجنيد عملاء من الفلسطينيين. والمقالة منشورة في أحد المواقع الالكترونية (1). وتقول:
«إن وسائل إعلام عربية وغربية كشفت مؤخراً أن شبكات التواصل الاجتماعي تخضع لرقابة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لغاية محددة هي استقطاب الشبان في الدول العربية، خصوصا الدول ذات العلاقة بالصراع العربي ـ الإسرائيلي. وفي كثير من الأحيان يلجأ عملاء المخابرات إلى التواصل مع أكبر عدد من الشبان الفلسطينيين عبر غرف الدردشة والمنتديات و«المسنجر» و«الفيس بوك» و«تويتر» و«ماي سبيس» وغيرها لتجميع أكبر قدر من المعلومات عنهم ثم استخدام صورهم وبياناتهم لابتزازهم وتجنيدهم، واختيار الضحايا الملائمة لعمليات التجسس». وأكدت المقالة أن كثيرا من العملاء اعترفوا بأنهم ارتبطوا بالمخابرات الإسرائيلية من طريق التواصل عبر الإنترنت.
لن أعيد كتابة التقرير هنا، غير أنه يستحق القراءة والتفكير. ما يثير الدهشة، أن مثل هذه التقارير الصحافية، رغم تكرارها، لم تعد تثير الاستغراب، وربما بات كثير من الناس يعتبر أن في الأمر مبالغات كبيرة. لكن، ما نسمعه في نشرات الأخبار وما نقرأه في الصحف عن مدى تغلغل الاستخبارات الصهيونية في عالمنا يثير الرعب. شبكات العملاء مثل شبكات العنكبوت، في كل مكان. في لبنان، مثلا، عشرات الشبكات العميلة تم الكشف عنها. لا يهم كيف تم الإيقاع بها. لكن تجدها في كل مكان. في المطار. في قطاع الاتصالات. وفي أماكن أخرى كثيرة، عادية وحساسة. وتضم مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية. كذلك الأمر في مصر، وفي الضفة الغربية، وفي قطاع غزة. المحزن في الموضوع، أن هذا الأمر لم يعد يثير المواطن. وربما بعض الناس يحاول ان يجد تبريرا لما يحصل من تطبيع، وعلاقات ودية مع الكيان الصهيوني. والبعض الآخر له وجهة نظر أخرى. قد يُقال إن هذه أفكار خشبية. وقد يفلسف بعض آخر الأمر بأفكار تأويلية، ويعتبر أن في الأمر قولين. وهكذا الأمور تسير.
خلال هذه الفترة، كنت أقرأ كتاباً شائقاً عن تاريخ مدينة صفد (2)، يسرد فيه مؤلفه مصطفى العباسي كثيراً من المعلومات المهمة عن تاريخ هذه المدينة التي اشتهرت بقلعتها، وجمال طبيعتها، وشموخ جبل كنعان، ونضال أبنائها. ما لفت نظري في الكتاب هو المصادر التي استند إليها المؤلف في استقاء معلوماته، ومنها أرشيف مخابرات الهاغاناه، نعم، مخابرات الهاغاناه التي كانت تجمع المعلومات المختلفة عن الفلسطينيين ومكوناتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وجميع فئات المجتمع. وكان بعض جامعي المعلومات مندمجين في الحياة العامة وبعضهم يشارك الفلسطينيين في أعمالهم التجارية، او يشتري غلال المواسم والحليب من الفلاحين من دون أن يُظهر انتماءه الفعلي.
تمتلئ خزائن الكيان الصهيوني بكميات هائلة من المعلومات التفصيلية عن الشعب الفلسطيني وعاداته ونشاط فئاته السياسية والاجتماعية منذ ما قبل النكبة. ومن بين هذه الخزائن أرشيف الهاغاناه والأرشيف الصهيوني، وأرشيف «دولة إسرائيل».
تشير الاقتباسات في كتاب مصطفى العباسي إلى أن مخابرات الهاغاناه كانت تتغلغل في داخل المجتمع الفلسطيني، وتسجل أسماء العائلات والأفراد والمؤسسات، وتراقب ما يدور في المدن والقرى. لم تكن التقارير تحتوي معلومات عسكرية او تحاليل سياسية بل موضوعات اجتماعية لو قرأها أحداً ما، لقال العبارة المشهورة «شو فيها!»، وأخذ الأمر باستخفاف. المستوطنون في تلك الأيام كانوا يحاولون أن يفهموا المجتمع الفلسطيني العربي، وما هي الأفكار السائدة فيه، وكذلك العادات والتقاليد وأسس العلاقات الاجتماعية والصراعات العائلية وطبيعة العلاقات بين أهل الريف وسكان المدن. وكان هؤلاء «المستعربون» ينادون الزعماء المحليين «أبناء العم»، وكان العرب يتجاوبون معهم، لكن باستخفاف وسذاجة. كانوا ينادون يوسف نحماني، مثلا بـ«العونطجي»، وهو الذي كان يرتبط بأوسع العلاقات مع الزعماء المحليين والعائلات الكبرى، وكان يشتري الأراضي للوكالة اليهودية. وكان مانو فريدمان، من سكان مستوطنة روش بينا (3)، تاجراً كبيراً للحبوب والمواشي، ويقيم علاقات تجارة وشراكة مع عدد من سكان القرى المجاورة، مثل الجاعونة وغيرها من قرى الجليل منذ بداية الأربعينيات وحتى عشية النكبة، وكان في الوقت ذاته ضابطاً في الهاغاناه (4).
ربما توفر تقارير استخبارات الهاغاناه مادة غنية لدراسة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في فلسطين قبل النكبة (وهذا ما فعله العباسي). ولا بأس هنا من إيراد بعض الأمثلة الواردة في الكتاب.
أحد التقارير (15/5/1941) يصف السيد صالح قدورة بأنه تاجر ثري ذو وجاهة كبيرة، ويصف عائلة عبد الهادي الأسدي بأنها عائلة تجار. ويتحدث تقريران آخران (24 و25/4/1941) عن عائلة خوري التي تعاطت تجارة السمك وقامت بشراء أراضٍ واسعة في سهل الحولة وطورت فيها مزارع الحمضيات. ويتحدث تقرير آخر عن وسائل النقل ومالكيها. ومن سخرية الأحداث، أن هذه المعلومات الاستخبارية وفرت مادة دسمة للباحثين لدراسة تلك المرحلة. لقد تحدث أحد التقارير (30/10/1941) عن «مشاركة أبناء الطبقة العاملة في ثورة 1936 ـ 1939» وعن ان قادتها الميدانيين، مثل أحمد طافش قائد تنظيم الكف الأخضر المسلح الذي نشط في أواخر سنة 1929 هم من صفوف هذه الطبقة». وقد اهتمت التقارير ايضا بمراقبة النزاعات العائلية في قضاء صفد خاصة في شأن ملكية الأراضي. لقد وصف تقرير لجهاز استخبارات الهاغاناه في سنة 1941 الوضع الاجتماعي والاقتصادي الصعب لعرب الغوارنة حيث «كان على الحراث أن يفرز 37,5% من محصوله لمالك الأرض بينما كانت المصاريف والبذور والحراثة والقطاف والعمل كلها على حساب الحارث. ومع الوقت أصبح الحارث عبداً للمالك (ملف رقم 105/226 سهل الحولة، 23/11/1941)».
من الحوادث المثيرة التي ذكرها العباسي تلك المنازعات التي وقعت في سنة 1924 بين بعض القبائل البدوية (عرب الشمالنة القاطنة شمال بحيرة طبرية) وبعض أعيان مدينة صفد وكبار ملاكيها (من آل مراد). ولما فشلت القبيلة في الوصول إلى مبتغاها بالطرق القانونية لجأت إلى أمر غير مسبوق، إذ أعلن أبناؤها ارتدادهم عن الإسلام واعتناقهم اليهودية، وراحوا يمارسون الطقوس الدينية اليهودية ويقدسون يوم السبت، وتوجهوا إلى السلطات بطلب تسجيلهم يهوداً. لقد أثارت هذه القضية ضجة كبيرة في الأوساط الفلسطينية وتدخل وسطاء كثيرون مثل الحاج أمين الحسيني والشيخ أسعد الشقيري، إلى ان تراجع زعيم القبيلة الشيخ مصطفى الصالح وزعم ان هذا الارتداد لم يكن إلا ظاهرياً، واتهم يهوداً من مستعمرة عين زيتيم بالتسبب بهذه الفتنة، فقد وعدوهم بتقديم المساعدة لهم ضد آل مراد إذا ارتدوا عن الإسلام.
يتحدث تقرير آخر (ملف رقم 105/212 تاريخ 13/3/1946) عن تزايد التنافس على النفوذ بين زعماء قرى القضاء وزعماء مدينة صفد، ويبين التوسع في حدة الانقسام الداخلي الذي وصل إلى أوجّه في الفترة 1939 ـ 1946. ويذكر العباسي ان الخلاف المديني ـ القروي الذي غذته سلطات الانتداب والحركة الصهيونية «شجع بعض شيوخ البدو على توطيد علاقاتهم بالحركة الصهيونية علانية. وعلى سبيل المثال وطد الشيخ حسين العلي (أبو يوسف)، زعيم عرب الهيب، علاقاته باليهود وبزعماء حركة الاستيطان منذ سنة 1946، ولم يتردد في إرسال تهديد إلى زعماء الحركة الوطنية في صفد، حيث كتب في إحدى رسائله: «من الآن وصاعداً سأكون إلى جانب اليهود كحزب واحد، ما يرضيهم يرضيني وما يغضبهم يغضبني». (وثائق مستعمرة روش بينا المجاورة لمضارب القبيلة). وقد وصلت هذه العلاقة إلى أوجّها في أثناء حرب 1948، حين شكلت فرقة عسكرية من أبناء القبيلة حاربت إلى جانب البلماح.
المحزن أن المسألة تتكرر منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا. أحيانا بالأساليب القديمة، وأحياناً بأساليب جديدة توفرها الوسائل الحديثة والتكنولوجيا. والهدف اختراق المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية. وتبين بوضوح أن الحصون الاجتماعية هشة وغير قادرة على الصمود في أحيان كثيرة.
السفير اللبنانية.
(1) http://hala.ps/ar/index.php?act=show&id=73100
)2( مصطفى العباسي. صفد في عهد الانتداب البريطاني 1917 ـ 1948، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2005.
(3) من أوائل المستوطنات الصهيونية في فلسطين، أنشئت عام 1883 قرب قرية الجاعونة، بدعم من روتشيلد وسكنها يهود مهاجرون من رومانيا.
(4) عادل مناع. حكاية زهرة الجاعونية. مجلة «حوليات القدس». العدد السادس، شتاء ـ ربيع 2008.