يرى الغربيون أن الشعر عموما لازم ، أي انّه قيمه في ذاته لا علاقة له بغيره ، غير أن المطلوب منا هنا أن يكون الشعر متعّديا ، أي أنّ له علاقة بالقضايا العامة .
وقد تعودنا من محمود درويش أن تكون قصائده حداثية مليئة بالمجاز ، ” لغتي في أقاصي الهديل ” ، غير انه ينزاح قليلا هنا في هذا الديوان الأخير عما عهدناه وكنا نتوقعه ، غير أنّه انزياح ضئيل ، غير أنه هام ، إذ يحدث انزياح واضح في بعض القصائد وتبقى العقبة أن الشاعر يتحدث لنفسه .
في نهاية قصيدة ” كان الموت تسليتي ” يقول الشاعر :
وكل ما يتمنى المرء يدركه
إذا أراد واني رب أمنيتي
إذا استثنينا ما تحته خط فان الحديث يدور على الآخر على إطلاقه وفيه ” مناطحة ” مباشرة للمأثور ” ما كل ما يتمنى المرء يدركه ” .
انه خطاب وخطاب واضح يعاكس ما هو قائم في المجتمع وراسخ رغم صغر المساحة هنا.
أما قصيدة ” إلى شاعر شاب ” فهي كلها المقصودة ، إنها خطاب واضح موجه للآخر كأنه نصيحة ، نصيحة لشاعر شاب بأن لا يقبل النصيحة في الشعر والأدب عموما ، بل وفي الفن وان يعتمد على ذاته ، هذا هو جوهر القصيدة التي أحتلت ست صفحات ” 141-146 ” من صفحات الديوان .
” لا تصدق خلاصاتنا وانسها
وابتدئ من كلامك أنت ، كأنّك
أول من يكتب الشعر ،
أو آخر الشعراء ! “
والتعجب ينفي أن يكون هذا الشّاب هو آخر الشعراء، والتركيز يطال هنا كلمة ” كأنّك “.
” كأنّك ” تسقط في واقع الحياة ، ولكنها هامة في الشعر لان الشعر يطاول المستحيل ولأنه تخييل يطابق كأنّ ، أو هو غواية كما ورد في صلب الكتاب .
والقصيدة كلها تلوب على معنى واحد :
” إن قرأت لنا فلكي لا تكون امتدادا
لأهوائنا “
” لا تسل أحدا: من أنا “.
غير أنّ هناك استثناء لا نستطيع أن نحيد عنه:
” أنت تعرف أمّك ..
أما أبوك … فأنت “.
وتأويل ذلك أن الوالد مستثنى من ذلك فمن حقه عليك أن تسمع كلامه ، نصائحه إلى غير ذلك ، وأنت ابتداء وانتهاء تتماهى معه ، وهذا لا يتعارض مع قول المصطفى : ” أمك ـ أمك ـ أمك ـ ثم أباك ” .
إنها رعاية ، وحتى شفقة بحق الأم ، التي عليها وقت تضعف فيه ، إن الشاعر لا يرتاح دون معاضلات .
ثمّ ” إن أردت مبارزة النسر
حلّق معه “
إشارة واضحة للجد ومواصلة الدرس والتعب، حتى تكون بمستوى من تبارز .
” إن أطلت التأمل في وردة
لن تزحزحك العاصفة ! “
ومن رأيي أن لا حاجة لعلامة التعجب، فالمسافة بيت التأمل والعاصفة ليست بعيدة تستحق التعجب، وان إطالة التأمل في الجميل ثبات مطبق ويستطيع مواجهة العاصفة.
والقصيدة عامرة بما يتحاج للتحليل إذ لم يقبل الشاعر أن تقتصر القصيدة على النصيحة فقط، بل لونها بما يخالف السائد والمعهود والذي سميته مناطحة.
” لا تصدق صواب تعاليمنا
لا تصدق سوى أثر القافلة “
من الواضح التنكر للمفاهيم السائدة واللجوء إلى التجريب والى المنهج العلمي لا غير هو الذي يوضح معالم الطريق.
ليست هذه دراسة للقصيدة وإنما إشارة إلى وجود الخطاب هنا، ويرتبط بالخطاب عنصر هام في الشعر هو الإيقاع، وهو يعتمد على التكرار، لقد ورد التكرار هنا ولكنه متنوع بسبب خبرة الشاعر وقدرته الفائقة على تلوين ما يريد أن يقول.
- شيخ النقاد الفلسطينيين