لا يمكن التقليل من أهمية بل خطر صعود أركان من اليمين المتطرف إلى البيت الأبيض. لكن لا بد من التذكير بأن المؤسسة الأميركية بمجملها اتجهت إلى اليمين، سواء داخل الحزب «الجمهوري» أو «الديموقراطي»، مع ما يعنيه ذلك من تطبيع مع قيم ولّادة للفاشية.
فالحروب الأميركية وفرض القوانين الداخلية ضد الإرهاب (التي أدّت إلى تقليص الحريات) وسياسات النيوليبرالية الاقتصادية، بما في ذلك الانسحاب ولو الجزئي للدولة من ملف الرعاية الاجتماعية، بمجموعها مسؤولة عن تنامي الاتجاهات العنصرية داخل المجتمع الأميركي.
أما مظاهر وتعبيرات الصدمة لدى قيادات «الحزب الديموقراطي» ووسائل الإعلام والصحف الليبرالية الأميركية، ففيها الكثير من الإسفاف والنفاق. إذ جميعها سوّق للرأسمالية بشكلها «المتوحش»، داخلياً وخارجياً، ودافع أو تساهل مع الحروب الخارجية و»الإسلاموفوبيا» والانتقاص من إنسانية «الآخر»، سواء من خلال تبرير التعذيب أو القصف أو استغلال مقدرات البلدان والشعوب.
وأما عن بروز أسماء «محافظين جدد» مثل جون بولتون وأليوت أبرامز مع فريق الرئيس المنتخب دونالد ترامب، فلا يسعنا سوى التعليق على الأمر بالإشارة إلى أن «رفاقاً» لهؤلاء مثل «أمير الظلام» ريتشارد بيرل وجون نيغرونتي وغيرهما، اصطفوا إلى جانب مرشحة «الحزب الديموقراطي» هيلاري كلينتون. وهذا يشكل دليلاً على أن اليمين المتطرف أضحى متمرساً في «حلقة واشنطن»، وبات يمثله متنفذون عابرون للأحزاب والإدارات الأميركية. لقد أعطى الملياردير دونالد ترامب صوتاً عالياً لمهمشي وفقراء أحشاء أميركا، من البيض وأولئك الذين لا تُسلَّط عليهم الأضواء، لكنه لم يخرج بتحالفاته خارج سياق الفئات المتنفذة تلك.
لا شك أن تعيين عنصريين مثل ستيف بانون كواحد من كبار المستشارين في البيت الأبيض، ومايكل فين كمستشار للأمن القومي، وترشيح جيف سيشنز، المعادي للمهاجرين والمؤيد للتضييق على الحريات والحقوق المدنية، لمنصب مهم هو الآخر، كلها مؤشرات على طبيعة الإدارة الأميركية الجديدة. علماً أن العنصرية الفاقعة لبعض الشخصيات داخل فريق ترامب، والتي ظهرت خلال الحملة الانتخابية، سببت إحراجاً لكثيرين من الحزبين «الجمهوري» و «الديموقراطي»، بمن فيهم أولئك الذين يؤيدون المغامرات العسكرية الأميركية، بل حتى من يستفيديون منها من خلال أسهم يملكونها في مجمع الصناعات العسكرية.
لكن هذا لا يلغي حقيقة أن ما وصلت إليه أميركا اليوم يتصل بسياسات الحزب «الديموقراطي» أيضاً. لم تنفع تحذيرات اقتصاديين مثل جوزف استغلتز من مغبة استحواذ واحد في المئة من الشعب الأميركي على ربع الدخل القومي الأميركي ومن انعكاسات ذلك على الديموقراطية ذات المضمون التمثيلي الواسع، ولا رفض روبرت رايخ مثلاً دعم ترشيح هيلاري كلينتون احتجاجاً على ما سماه ابتعاد «الحزب الديموقراطي» عن العمال وغالبية الفئات الدنيا من الشعب الأميركي. عوضاً عن ذلك، بدا أن الكل كان عرضة للوم إلا الفئات المتنفذة. من هنا جاء جزء كبير من نجاح دونالد ترامب. إذ تمكن من تصوير ذاته «مُخَلِّصاً» للفئات المستضعفة من الطبقات المهيمنة، تحت شعارات شعبوية عن «استعادة عظمة أميركا».
ليس القصد أن «الحزب الديموقراطي» كان ثورياً في يوم من الأيام، لكنه تخلى عن أسس ما يسمى بـ «الصفقة الجديدة»، أي سلسلة البرامج التي شكلت شبكة ضمان اجتماعي للفئات الفقيرة، تحديداً بعد الكساد الكبير العام 1929.
لقد بدأت إطاحة برامج العدالة الاجتماعية بتنظير من الاقتصادي ميلتون فريدمان في عهد «الجمهوري» اليميني رونالد ريغان. لكننا تابعنا «الحزب الديموقراطي» ينسحب من المعارك التي أُريد منها الحفاظ على هذه البرامج، تحت ضغط مؤسسة زادت قوة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والنموذج الاشتراكي عموماً، وكنتيجة طبيعية لتزاحم قيادات هذه المؤسسة على دخول نادي «الواحد في المئة» من المحظيين.
والحكاية إلى حد ما طبيعية: إذ كيف باستطاعة واشنطن أن تنادي بـ «اللبرلة الاقتصادية» وبإطاحة برامج الضمان الاجتماعي في البلاد كافة من خلال صندوق النقد الدولي من دون أن تكون النموذج في سياسات التفقير؟
ما نراه الآن أن واشنطن التي تقود من خلف ستار المؤسسات المالية الدولية حملة تعميم نموذج اقتصادي متفلت من الضوابط وجدت نفسها أمام صراع داخلي قادرة على اجتيازه، لكن على حساب الحريات والفقراء ومع أكلاف بعضها يتمثل بتنامي النزعة العنصرية.
الحالة نفسها نراها في بريطانيا بعدما تحول «حزب العمال» الذي كانت له تقاليد تاريخية أهم من الحزب «الديموقراطي» في أميركا لناحية حماية حقوق الطبقات العاملة، إلى حزب متواطئ مع سياسات ضرب البرامج الاجتماعية، خصوصاً حين كان في عهدة رئيس الحكومة البريطاني الأسبق طوني بلير. وهو ما يفسّر أحد أبرز أسباب محاولات الإجهاز على رئيسه الحالي جيريمي كوربن، الذي يناضل من أجل ما يراه «روح حزب العمال».
أما اللافت في بلادنا فإن الحكام أو معظمهم لا يرى في التحولات الجارية سوى إمكانية لتسوية أوضاعهم لإرضاء الحاكم الجديد وإدارته في واشنطن. لا عظة مما حصل ولا دروس. بل إصرار على تنفيذ الوصفات ذاتها التي أنتجت يميناً عنصرياً هناك، ومن شأنها أن تعيد إنتاج الاستبداد والتبعية والحروب الطائفية هنا.
السفير
عن النيوليبرالية «الضحية» والفاشية الصاعدة…بقلم: لميس أندوني

Leave a comment