شهدت الحياة الفكرية العربية في العقدين الأخيرين ضعفاً وانحساراً ملحوظاً لنشاط وعمل التيارات الإيديولوجية اليسارية والأحزاب التقدمية والديمقراطية ، بفعل سقوط وانهيار التجربة الاشتراكية ونتيجة الملاحقات السياسية والإرهاب الأصولي والقمع الفكري الممارس من السلطتين السياسية والدينية ضد الأوساط والقوى والنخب الفكرية العلمانية والطليعية المسلحة بالعلم والثقافة والوعي ، والمؤمنة بالتغيير ، والمطالبة بالديمقراطية والحرية ، والمقاتلة بلا هوادة دفاعاً عن العقل وكبرياء الفلسفة وشرف الإنسان وكرامته وحريته .
هنالك تحريم وكبت للحريات الديمقراطية وتغييب لاشراقة العقل وللفلسفات التنويرية وتدمير للكيان الثقافي والسياسي للإنسان والمجتمع العربي ، وثمة انبعاث للصراعات الإقليمية والعشائرية والطائفية وللنزعات اللاعقلانية ، وكذلك صعود مذهل للموجة الدينية الأصولية المتطرفة والقوى المتعصبة والمتشددة المعادية والمناهضة للعقل ، واندثار للقيم الثقافية والثوابت الوطنية والثورية وتكريس التبعية للامبريالية الأمريكية.
والسؤال المطروح: كيف نتعامل ونتعاطى مع هذه التفاعلات والأوضاع الراهنة على ضوء تراجع قوى اليسار في الوطن العربي وتنامي الأصوليات الدينية المتطرفة ؟!
باعتقادي انه لا مستقبل بدون الفكر العقلاني العلمي والديمقراطي الانعتاقي المتنور في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وعلى جميع التيارات والاتجاهات والمذاهب الفكرية اليسارية في عالمنا العربي القيام بمراجعة نقدية للذات وقراءة جدلية صحيحة للواقع السياسي وتناقضاته ، والاستفادة من التجربة الماضية والعمل على إحداث نهضة حديثة ، وتجديد الفكر السياسي والاجتماعي والرؤية الثورية بحيث يتلازمان مع معطيات المجتمع .
هذا بالإضافة إلى دراسة تراثنا الثقافي والاجتماعي والديني والإلمام به واستيعابه نقدياً ، وتنمية قدراتنا الإبداعية والخلاقة الذاتية واعتماد نهج عقلاني وحضاري بمنظار تقدمي وعلمي ، وبناء حضارة عربية تجمع بين الأصالة والتراث القديم والثقافة النقدية ومكتسبات الحضارة الإنسانية العالمية.
وزيادة على ذلك تشكيل حصانة فكرية وثقافية ضد السلبيات والأفكار الانهزامية والثقافة المتعولمة ، والتمسك بالمواقف القومية والطبقية والثقافية والفكرية عدا عن الانغماس أكثر بالبيئة والجذور الشعبية ونبض الناس والتفاعل مع همومهم وعذاباتهم اليومية إلى جانب الاستمرار في طرح البديل الثوري التقدمي والتغييري المستقبلي الشمولي ، الذي يبدد الجهل ويكسر الاستبداد ويواجه القهر والاضطهاد والظلامية ويلبي طموحات وحاجات الجماهير والفئات الشعبية المسحوقة الكادحة بالحياة الإنسانية الرغيدة الهانئة والكريمة تحت سقف المجتمع المدني الديمقراطي والحضاري.