رام الله – وفا- يامن نوباني /منذ 8 تموز 1972 إلى اليوم، لم يعد لغسان كنفاني عنوان للوصول إليه، لكنه، بفكره المتوج باستشهاده، قام بالمهمة، ووصلنا جميعا، إلى كل عناويننا.
للوصول إلى حياة انسان ما، لا بد من محاولة إيجاده شخصياً، ولأن غسان استشهد –جسداً- لم يعد بالإمكان أخذ موعدٍ معه ولقائه.
ولأن بيته في عكا، حيث وُلد، احتله اليهود، وبيته في يافا احتل ايضاً، ولم يعد هناك بيت في بيروت، كانت الطريق الأقصر والمتوفرة، الاتصال بمكتبه في مجلة “الهدف” لكن الرقم (309230) لا يُجيب، ولا قلم يرد على الكلمات لو كتبناها في رسائل ورقية وكانت الوجهة البريدية: بيروت، ص.ب رقم 212.
تعطل الهاتف وتعطلت “الهدف”، لكن لم يتعطل الأصدقاء، الذين زاملوا غسان في تلك المرحلة الثورية والأدبية، وكان أبرزهم عدنان الحلو المقيم حاليا في فرنسا، ليوافينا وكأننا بالأمس، في نهايات الستينيات وبدايات السبعينيات مع غسان كنفاني.
يصف الحلو لـ”وفا” بيت كنفاني في بيروت: يقع في ضاحية بيروت الجنوبية الشرقية في منطقة الحازمية وبالتحديد في محلة مار تقلا، في الطابق الأول من بناية مقامة على منحدر يطل جنوبا على واد عبارة عن “حواكير” يقابله مبنى “دار الصياد” الشهيرة، ويتصل من الناحية الشمالية بحديقة صغيرة تابعة له، ويتكون من صالون واسع إلى حد ما تزين جدرانه لوحات متنوعة بعضها من أعمال غسان نفسه وأخرى إهداءات من أصدقائه الفنانين، وتشغل معظم جداره الشرقي خزانة كتب كبيرة، وشرفة مستطيلة تطل على الوادي وتشكل الواجهة الجنوبية للبيت كله، إضافة إلى غرفة مكتبة متصلة بالصالون، وأخرى صغيرة للطعام وغرفتي نوم.
ولأن الاغتيال كان بتفجير سيارته، استذكر الحلو: كانت لدى غسان سيارة قديمة (موديل أواخر الخمسينيات) من نوع BMW 2000 وقد باعها قبل استشهاده بفترة قصيرة واشترى سيارة صغيرة (من نوع أوستن 1100على ما أعتقد) بيضاء اللون، هي التي تم تفجيرها.
ولأن جنازته كانت مهيبة، أعاد الحلو لحظاتها: كان هناك أكثر من عامل جعل تلك الجنازة مميزة جدا. أولها دون شك، شخصية الشهيد غسان وسمعته ودوره كأديب وصحفي ومناضل معروف جدا على كل الصعد الفلسطينية واللبنانية والعربية وحتى الدولية. يضاف إلى ذلك أنها عملية الاغتيال الإسرائيلية الأولى المعروفة وحتى المعلنة التي تشهدها بيروت. فكان ثمة إجماع على الحزن لم يسبق أن عرفته العاصمة اللبنانية المعروفة بانقساماتها حول كل شيء. ولذلك شهدت تلك الجنازة حشودا قل أن شهد لبنان نظيرا لها شاركت فيها كل منظمات المقاومة على اختلافها وجميع الأحزاب والقوى اللبنانية بكافة مشاربها وطوائفها. إضافة للحشود التي زحفت من المخيمات الفلسطينية في جميع أنحاء لبنان وحشود الناس العاديين من لبنانيين وسوريين وعرب مقيمين في لبنان أو حضروا خصيصا للمشاركة في وداع الراحل الكبير من أكثر من بلد عربي، خاصة من سوريا والأردن والعراق واليمن والكويت وغيرها من دول الخليج العربي.
يضاف إلى ما تقدم عدد كبير من الدبلوماسيين العرب والأجانب وكثير من الصحفيين الأجانب المقيمين في لبنان أو الذين حضروا خصيصا من عواصم أوروبية غربية وشرقية.
وحول أكلاته المفضلة: لم يكن غسان يهتم كثيرا بالطعام، حتى أنه كثيرا ما كان يكتفي بشطيرة يتناولها وهو منهمك بالعمل.. وكان يشاركنا (جميع العاملين في الهدف) بالغداء في مطعم صغير افتتحته عائلة من الجنوب اللبناني في الطابق الأرضي من البناية التي تشغل المجلة طابقها الأول.. وكان يقدم فيه طبيخ منزلي عادي (فاصوليا أو بامية مع الرز).
غسان كان مصابا بالسكري من الدرجة الأولى أي منذ الصغر، وكان مواظبا يوميا على حقن نفسه بإبرة أنسولين في البطن، وربما كان هذا ما جعله متحفظا في الطعام.
كان كنفاني يحتفظ في درج طاولة مكتبه كما في درج سيارته ببعض البسكويت والسكاكر تحسبا من احتمال هبوط مفاجئ لمستوى السكر.
وعن عاداته في القراءة والكتابة: بالنسبة للقراءة كان يتركها للبيت. أما الكتابة فكان يمارساها في أي وقت حتى مع وجود آخرين معه في الغرفة. وكثيرا ما كان ينجز مقالا وهو يشارك في اجتماع، خاصة تلك الاجتماعات الحزبية التي يهدر فيها الكثير من الوقت.
لم يكن قادرا على هدر وقته دون عطاء. حتى ولو كان مجرد خربشة على ورقة بيضاء أمامه لا تلبث أن تتحول بين يديه إلى رسم معين أو زخرفة من نوع خاص أو حتى تسجيل لفكرة يعود إلى تطويرها لاحقا لتوظيفها في مقال أو قصة قصيرة أو حتى رواية.
ترى هل كان لديه حدس بأن حياته ستكون قصيرة؟
إلى جانب الأدب والإعلام والسياسة ما هي اهتمامات كنفاني: أولا الرسم بالقلم والألوان. وكان قد بدأ نشاطه في دمشق بعد اللجوء بتدريس مادتي الرسم والرياضة في إحدى مدارس الأونروا.
ترك خلفه كنزا من اللوحات الجميلة، وحتى المنحوتات. كما كان يهتم بالورود التي زرعها في الحديقة الصغيرة في الجهة الخلفية من بيته.
كان يعشق زيارات المخيمات ويلتقي بالناس العاديين من أهلها لا سيما كبار السن الذين يحملون معهم كنوزا من الذكريات عن فلسطين. وكثيرا ما كنا نرافقه في هذه الزيارات خاصة عندما يكون لدى الجبهة الشعبية مهرجان تخريج أشبال فيقتنص المناسبة للانخراط مع الأهل على هامش الاحتفال وبعده.
هل تتذكر رقم هاتف لغسان (البيت، العمل، شخصي)؟ لا أتذكر الأرقام. وبالنسبة لهاتفه الشخصي لم يكن هناك هواتف شخصية في تلك الأيام، حتى في “الهدف” لم يكن لرئيس التحرير رقم خاص بل كان لدينا رقم واحد تتلقى السكرتيرة المكالمة وتحولها إلى غرفة صاحبها.
عن علاقة غسان بالحدود مع فلسطين؟ في فترة العمل في “الهدف” لم يحصل ذلك إلا مرة واحدة حيث قمنا بزيارة القواعد العسكرية في منطقة العرقوب (كفرشوبا) وكانت لنا إطلالة على الأراضي الفلسطينية من هناك.
في هذا المجال بالذات كنت ألاحظ -وربما أكون مخطئا- أن غسان كان أكثر اهتماما باللاجئين الفلسطينيين. فإلى جانب حماسه لزيارة المخيمات كان حريصا، في كل مرة نقوم فيها بمشوار في نهاية أسبوع العمل إلى منطقة شملان في الشوف، على زيارة الأستاذ أحمد الشقيري في منزله هناك. وكان يصغي إلى أحاديثه باهتمام واحترام كبيرين.
عن سجائر غسان، وتفاصيل حقيبته؟ كان يدخن “مالبورو”.. لكنه في السنة الأخيرة توقف عن التدخين غير أنه بقي متمسكا لفترة طويلة بعادة حمل سيجارة غير مشتعلة في يده وأحيانا في فمه. دون أن يدخنها.
وكانت لديه حقيبة “سمسونايت” سوداء عادية جدا.
وعن عائلته: زوجة غسان وابنته ليلى مقيمتان في بيروت وتشرفان على مؤسسة غسان الثقافية التي ترعى عددا من المدارس في المخيمات، إضافة إلى نشر إنتاجه، فيما يقيم ابنه فايز في الدنمارك.