طلال سلمان– السفير اللبنانية / تتهاوى مكانة القضية الفلسطينية في العمل السياسي العربي حتى لقد باتت تثير ضجر القيادات السياسية والديبلوماسية، وتحول إدراجها على جدول اعمال أية قمة عربية أو إسلامية أو دول عدم الانحياز إلى بند روتيني يفرضه التعود أو التخوف من لوم المزايدين من محترفي تسجيل المواقف بالكلمات المدوية في قلب الفراغ.
تشهد على ذلك محاضر القمم العربية، ومثلها الإسلامية، فضلاً عن التصريحات المفرغة من أي مضمون والتي تصدر عن لقاءات كبار المسؤولين العرب أو اجتماعاتهم مع القادة الأجانب، والاميركيين منهم على وجه الخصوص.
وبهتت صورة «منظمة التحرير الوطني الفلسطينية» التي ذابت في «السلطة» التي تكاد تكون أقل من «مجلس بلدي»، وان استمرت الألقاب تحيط بأسماء أصحاب المناصب المفرغة من أي مضمون يستوي في ذلك «فخامة الرئيس» و «معالي الوزير» و «سعادة السفير», مع الإشارة الى ان كلا منهم لا يتنازل عن أي من امتيازات المنصب.. لا سيما ألقاب التشريف والتعظيم.
الأخطر أن «القضية» تفقد وهج قداستها حتى في الأوساط الشعبية العربية، لا سيما مع استمرار الحملة السياسية والإعلامية على «الفلسطيني» كانسان احتل، ذات يوم، مكانة مميزة في عيون إخوانه العرب الذين آمنوا بالفعل بحقه في بلاده التي طرد منها نتيجة تخاذل حكامهم وضعف جيوشهم وغياب الخطة، بما سهل على العدو الإسرائيلي المعزز بدعم دولي غير مسبوق أن يحتل بعض فلسطين في العام 1948، ثم أن يستكمل احتلالها بعد هزيمة الخامس من حزيران ـ يونيو ـ 1967.
على أن الكارثة لم تتكامل فصولاً إلا مع إقدام الرئيس المصري أنور السادات على إخراج مصر من ميدان القضية المقدسة باتفاق فك الاشتباك ثم بالذهاب إلى القدس المحتلة ولقاء القادة الصهاينة بوهم انه ينهي الصراع التاريخي، قبل أن يتابع مسيرته الى الصلح المنفرد بمعاهدة كامب ديفيد… وكان بين مقتضيات التمويه أن تشن حملة شرسة على الفلسطينيين عموماً تستعيد قاموس الإهانات والشتائم التي واكبت خروجهم، بل إخراجهم من بلادهم بقوة القتل الإسرائيلي، موجهة إليهم جريمة «بيع أرضهم» وتخاذلهم في الدفاع عنها بكل المقدسات التي تجعلها مميزة بين بلاد الله.
كانت الثورة أو المقاومة الفلسطينية قد خسرت الأردن، بداية، بعد مذابح أيلول – سبتمبر- 1970… ثم خسرت لبنان بعد أن أغواها سياسيوه باتخاذه منطلقاً لعملياتها ضد العدو الإسرائيلي، تمهيداً لان يحاولوا الاستقواء بسلاحها في صراعاتهم الداخلية. وهكذا خسرت التأييد الشعبي الواسع في لبنان من دون ان تتقدم ذراعاً في اتجاه فلسطين، بل لقد غدت ـ بعد لبنان – أبعد عن فلسطين مما كانت في أي يوم. وقبل أن تخرج من بيروت التي أغوت قياداتها فأفسدتهم كانت قد خسرت سوريا لأسباب يطول شرحها، وان كان يمكن اختصارها بالصراع على قيادة الأمة، بين صاحب الأرض المقدسة وبين المتحكم بالطريق إليها. وحسم العدو الإسرائيلي هذا الصراع باجتياح لبنان وإخراج المقاومة الفلسطينية منه في صيف العام 1982… وبالتحديد بعد سنتين تماماً من إقدام الرئيس العراقي صدام حسين على شن حربه المدعومة من أهل النفط والغرب بقيادته الاميركية، على إيران الثورة الإسلامية بقيادة الخميني.
ولقد كان الشعب الفلسطيني، مرة أخرى، أعظم ضحايا تلك الحرب التي أعقبها غزو صدام حسين الكويت العام 1990 انتقاماً من أهل النفط الذين دفعوه إلى قتال إيران لمدة ثماني سنوات طويلة ومكلفة بضحاياها وخسائرها الاقتصادية ثم تخلوا عنه وبلاده محطمة ومفقرة بحيث لم ينفعه «الانتصار» في التقدم إلى زعامة الأمة معززا بالمكافآت المجزية التي تمكنه من جعل العراق «بروسيا العرب»، المؤهلة لتحرير فلسطين. ذلك أن غزو الكويت سرعان ما اتخذ ذريعة لضرب العراق لإخراج عسكره منها عام 1991، ثم لإقدام القوات الاميركية على احتلال العراق جميعاً سنة 2003 وتحطيم دولته وإعدام رئيسه المغامر الذي توهم فيه الفلسطينيون لفترة القدرة على مواجهة إسرائيل وإلحاق الهزيمة بها.
بعد احتلال العراق، طردت الكويت ومعها بعض أقطار الخليج حوالي نصف المليون من الفلسطينيين الذين أسهموا بقدراتهم وخبراتهم في بناء تلك الدول الغنية التي استولدها النفط في قلب الصحراء.
صار الفلسطيني طريدا، بل انه صار مطارداً وضيفاً ثقيلا في معظم البلاد العربية، فلا حاضنته المصرية عادت تقبله، ولا دول الخليج تؤويه برغم احتياجها إليه، وله مع الأردنيين مشكلة معقدة إذ يرونه مزاحماً خطيراً وطامعاً بالإمارة البدوية التي استولدت مملكة هاشمية لتؤمن – مسبقا – المشروع الإسرائيلي في فلسطين، ولا لبنان يرضى بوجوده فيه الا كلاجئ ليس له حق العمل الشرعي فيه مهما كانت كفاءاته… وبقيت سوريا وحدها، ولأسباب تاريخية، من يعطيه حقوق المواطن، في العيش والعمل، من دون حق الانتخاب الذي لا يمارسه السوري بالولادة أصلا.
… وها هي الانتفاضة السورية ضد النظام والتي ترفع بعض فصائلها الشعار الإسلامي، تحرج الفلسطينيين فيها وتكاد تخرج القيادات من معارضي سلطة محمود عباس منها… فلا يجدون إلا القاهرة مأوى جديداً، مفترضين ان «الحكم الإسلامي» فيها سيكون ارأف بهم من «حكومات العلمانيين» وكذلك من الدول التي تحكم بالقرآن والسيف.
من هنا تكتسب الجريمة البشعة التي وقعت ضد الجنود المصريين الصائمين في رفح، قبل أيام، أبعادا خطيرة جداً، من خلال التسرع باتهام تنظيم فلسطيني مجهول بارتكابها، ثم من خلال حملة الكراهية الشرسة التي شنت وما زالت تشن على الفلسطينيين، شاملة بعض المسؤولين المصريين، ومنهم رئيس الحكومة الذي «اتهم» بان أمه فلسطينية جداً.
وبغض النظر عن الظلم الفادح فان الأخطر هو التقاعس عن محاسبة المسؤولين من القادة العسكريين، ثم السياسيين الذين تناسوا الدور الإسرائيلي في تلك العملية الإجرامية وما أعقبها من تدخل إسرائيلي فظ ينتهك كرامة مصر دولة وشعباً.
وبهذا تكتمل الدائرة، ويصبح الفلسطينيون شعباً من المنبوذين، تطاردهم الأنظمة العربية وبعض الجماهير، بحملة تشهير بشعة، تغطي على التخاذل في مواجهة إسرائيل، ومحاول التنصل من معاداتها، والتأكيد على الالتزام باتفاقات الصلح المنفرد المهين معها، والذي يرى فيه الكثير من العرب امتهانا لكرامة الشعب المصري وخضوعاً للإذلال الإسرائيلي المتعمد لأكبر دولة عربية.
فمن بقي داخل دولة إسرائيل او في «حماية» احتلالها يعيش الإهانة والذل وافتقاد من يحميه من وطأة الجوع والقهر، ومن أخرج إلى جهنم اللجوء في دول «إخوانه» العرب يعيش مطارداً، لا يجد فرصة للعمل – مهما كانت كفاءته – إلا «بالأسود»، أي من دون أي ضمانة.
[[[[[[
لا بد من إعادة تصحيح المنظور السياسي إلى القضية:
فإسرائيل هي العدو والشعب الفلسطيني هو الضحية، حيثما وجد في «الداخل» أو كلاجئ في الخارج..
والشعوب العربية في موقع «الفلسطيني»، مهما تعددت ادعاءات الحكام لطمس الحقيقة وتمويه صورة العدو، هرباً من ميدان المواجهة الأصلي، مع الإسرائيلي الذي ليس له من صفة إلا العدو الوطني والقومي والديني لمن يتمسك برفع الشعار الإسلامي راية للهرب من الميدان.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية