الكتابة عن قرية باب الشمس، التي أسستها مجموعة من المناضلات والمناضلين الفلسطينيين شرق القـــدس، في عمل احتجاجي لا سابق له على الاستيطان الاسرائيلي الوحشي الزاحف، مسألة بالغة الصعوبة بالنسبة لي. فإلى جانب العصف العاطفي الذي اجتاحني، بوصفي مؤلفا للرواية، فان وجع الذاكرة اخذني الى وجوه اصدقائي ورفاقي الذين سقطوا شهداء في طريقهم الى شمس الحرية في فلسطين.
في ثلاثة ايام ولدت القرية الفلسطينية الرائدة ومحيت من الوجود.. ثلاثة ايام من الابداع والخيال والنضال كانت كافية كي تفتح في اعماقي جراح الأمل، وتعطيني درسا في بلاغة الفعل الذي بدأ كلمة وصار جرحا قبل ان يتجسد في جغرافية ارواحنا وجغرافية المكان الفلسطيني.
قرية باب الشمس تشبه الرواية في قدرتها على ان تكون مرآة لا تعكس الواقع الا بوصفها محاولة لاعادة خلقه. لا يكتفي الابداع الأدبي او النضالي بتجسيد الواقع، بل هو ايضا رؤية لاعادة صوغه وتغييره. فكما يغير التاريخ الأدب يستطيع الأدب ايضا ان يساهم في تغيير التاريخ.
ما صنعه المناضلات والمناضلون حين اسسوا قريتهم/قريتنا كان ابداعا، لأنه بنى رؤية جديدة لقيم العدالة والحق التي هي جوهر المسألة الفلسطينية. وهم في هذا كانوا روادا لاحتمالات الأفق النضالي الفلسطيني، الذي يتشكل اليوم من جديد على ايقاع حركة الثورات العربية التي تجتاح المنطقة.
اكتب الآن بوصفي قارئا، وليسمح لي اصدقائي من اهل قرية باب الشمس، الذين قبلوني مشكورين مواطنا في قريتهم التي هدمت، ان أساهم في نقاش هذه التجربة، لأنني رأيت فيها ملامح احتمالات انعطاف في المسار النضالي الفلسطيني، قادر على ان يشكل اساسا لمواجهة التغول الاحتلالي الاسرائيلي، وبناء افق لحرية فلسطين.
تهديم باب الشمس ليس هو الجديد، فالقرية الوليدة تنضم الى اكثر من 400 قرية فلسطينية قام الاحتلال بتدميرها في حرب النكبة، كما تنضم الى احياء كاملة تم جرفها بعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة وغزة عام 1967.
القمع الذي واجهه اهل باب الشمس لا يقارن بالمجازر الجماعية التي ارتكبها ويرتكبها الاحتلال من عين الزيتون الى دير ياسين، ومن الطنطورة الى كفرقاسم، ومن شاتيلا وصبرا الى جنين وغزة. واذا كان جيش الاحتلال قد نجح اليوم في طرد اهالي باب الشمس من دون اللجوء الى القتل، فان الجيش الذي اشتهر خلال الانتفاضة الاولى بتكسير عظام الاطفال لن يتوانى عن استخدام العنف في مواجهة الفلسطينيين في مرات مقبلة.
الأرض التي حاول اهالي باب الشمس تحريرها هي ارض مصادرة استولى عليها الاحتلال بالقوة. وهذا ليس جديدا، كل فلسطين ارض مصادرة. اراضي الضفة يستبيحها الجدار والمستوطنات، بينما لا تزال غزة تحت الحصار. فلسطين ترزح تحت احتلال عنصري لا يرحم، والاسرائيليون الذين اسلموا قيادهم لأحزاب فاشية وعنصرية يقيمون اليوم نظام تمييز عنصري سوف يقودهم الى الهاوية.
الجديد في تجربة باب الشمس يتمثل في ثلاث مسائل:
الأولى هي اسلوبها الجديد. فبدل رد الفعل لجأ المناضلات والمناضلون الفلسطينيون الى اخذ المبادرة، وبدل الاحتجاج السلبي لجأوا الى الاحتجاج الايجابي. بناة باب الشمس كانوا يعرفون انها ستُهدم، لكن اصرارهم على بناء قريتهم الرائعة وسط صقيع كانون الثاني/يناير كان اعلانا بأن انقاض الوطن الفلسطيني قادرة على ان تلتحم من جديد. باب الشمس اسم رمزي لكل القرى المهدمة. كل القرى والمدن صارت اليوم مرشحة كي يبنيها اهلها واصحابها من جديد.
الثانية هي ان هذا الأسلوب الجديد يعكس مناخات استعادة روحية النضال بعد الجدب الذي صاحب انطفاء الانتفاضة الثانية، اي ان تغيير الاساليب ليس مسألة شكلية، بل هو تعبير عن نضج ثقافي وسياسي. لا يستطيع الباحث ان يفهم الثورة الفلسطينية الحديثة من دون ادب غسان كنفاني ومحمود درويش واميل حبيبي، او من دون فكر ادوارد سعيد وعمل المؤرخين والباحثين الفلسطينيين كوليد الخالدي. لذا فإن استعادة الروح النضالية عبر اللجوء الى الأدب في هذه التجربة الجديدة، هي مسألة جوهرية، وهي رغم استلهامها رواية ‘باب الشمس’، لكنها حصاد عمل اجيال من المثقفين والمناضلين الفلسطينيين والعرب.
الثالثة هي ان النضال السلمي الذي سيشكل بوصلة العملية النضالية في فلسطين اليوم، ليس نقيضا او بديلا لأشكال النضال الأخرى. لا نريد ان ننتقل من تقديس احادية البندقية ورفض كل الاشكال الأخرى، الى تقديس النضال السلمي. النضال السلمي هو الشكل الملائم اليوم، لكنه لا ينسخ الأشكال الأخرى، بل يكملها وقد يصل في مرحلة لاحقة الى استخدام بعضها.
اعتقد ان قرية باب الشمس فتحت الأفق النضالي في الضفة الغربية، نحن على عتبة مرحلة جديدة وبشائر انتفاضة فلسطينية ثالثة، لكن هذه الانتفاضة يجب ان لا تكون منفصلة عن غزة او الشتات او فلسطينيي 48. انها اطار لاستعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية التي فُقدت تدريجيا بعد اوسلو، وهي استعادة تصنعها القاعدة الشعبية، وجيل جديد من المناضلات والمناضلين آن له ان يحتل مقدمة المسرح السياسي.
قيل الكثير عن ركود فلسطيني مقارنة بالثورات العربية، غزة في صمودها وباب الشمس في دلالاتها جاءتا لتبددا هذا الركود. خيم باب الشمس كانت الوجه الآخر لخيم النازحين السوريين من عسف الاستبداد، كما كانت اشارة الى افق المخيمات الفلسطينية التي عانت ما عانته من اليرموك الى تل الزعتر الى جنين الى نهر البارد.
المخيم الجديد هو مخيم استعادة الأرض، والانغراس فيها وتعميدها بالعرق والدم والصمود.
تحية الى الذين صنعوا قريــــتنا التي فتحـــت باباً لشمس الحرية.
القدس العربي .