بالرغم من الاختلاف وحدة هذا الاختلاف وتصاعده في هذه الأيام بين «حماس» و»فتح»، الجناحين الرئيسيين لتوازن القوة الفلسطينية، الا أنه يجدر بنا ان نتوقف ولو قليلاً أمام حدث سياسي وفكري تاريخي أقدمت عليه «حماس» مؤخراً، ربما بالمعنى المهني على مستوى المراقبة والمتابعة الصحافية والتحليل يتجاوز في أبعاده أزمة طارئة.
اما هذا الحدث من طراز تاريخي فهو الوثيقة التي أصدرتها «حماس»، فيما يعتبر تحولا آخر على مستوى الفكر السياسي الفلسطيني، اذا كان التحول الأول هو الذي أحدثته «فتح» العام 1974 والثاني تمثل العام 1988 في إعلان وثيقة الاستقلال، بتأثير من قوة «فتح» وديناميكيتها السياسية. واليوم هذا هو البعد او التحول الثالث الذي أعادت تركيبه حركة «حماس» في هذا السياق التاريخي، ليمثل العامود الثالث الذي يقوم عليه عرش أبوللو، اله الحوار في الميثيولوجيا الإغريقية.
وأظن ان كل ما قيل وهو مهم اقتصر على البحث في المسائل التفصيلية لرؤية اتسمت بصياغة حاذقة، ولكنها شديدة الحرص في الإبقاء على هذا القدر من مرونة التأويل، وهذا الحرص ربما على قول الشيء والإيحاء بضده، التأكيد على المبادئ والتصميم او المخطط الكبير، ولكن ايضا وفي الوقت نفسه التأكيد على ابراز قدر واضح من التماهي العملاني او العقلانية بالواقعية الحداثية مع السياسة، انما هو سمة طبيعية ومتكررة في التاريخ في جميع تلك التحولات التي أقدمت عليها الحركات الأيديولوجية المشابهة، حين يتعلق الأمر في إقناع القاعدة والأنصار المناضلين. والأصح البدء بمسار ترويضها الفكري والسياسي لتقبل الحقائق الجديدة، بانه لم يتم كسر او تحطيم الأصنام القديمة التابوهات المقدسة والتلوث بالدنس الخارجي، الذي تلوث به الآخرون. فنحن هنا لسنا على طريق «فتح» ودنس السياسة التي يمكن ان تقود الى اوسلو.
ان هذا التبرير الذاتي مفهوم كما انه ضروري، و»فتح» نفسها غير الأيديولوجية لا زالت تحافظ على هذا التوازن التاريخي الدقيق في تأكيدها الدائم على الثوابت. وربما اختزلته تاريخيا عبارة عرفات الشهيرة والغامضة عن «العهد هو العهد والقسم هو القسم»، ولكن ابعد من ذلك العبارة التي قالها السياسي النمساوي الشهير مترنيخ أثناء غزو نابليون أوروبا في مستهل القرن التاسع عشر، واضطراره الى مخاتلة نابليون في بادئ الأمر من «ان شعرة رقيقة تفصل بين البطولة والتخاذل».
ان المسألة اذن تتعدى وتتجاوز التفاصيل، وإنما تتعلق بالمبدأ العام بالروح التي صاغت وأملت إحداث هذه النقلة او التحول في هذا التوقيت، ولو كان ذلك متأخراً. ولكن إتمام هذا العمل القيام بما يجب القيام به، وهذا المبدأ الفعل الموجه هو القدرة او الجرأة على التكيف والتفاعل الإيجابي مع اللحظة والظروف المعطاة. وارى شخصياً ان هذا هو المهم تاريخياً في سياق الفكر والعقل السياسي الفلسطيني، ودلالته اليوم في انه يواصل احداث الفارق مع ما يبدو انه التقدم الفلسطيني على مستوى العلاقة بين الزمن والسياسة، والتأخر والنكوص والارتداد بل التراجع الإسرائيلي، بحيث يبدو واضحاً التفوق الفلسطيني على مستوى هذه الثغرة النوعية.
ان الرئيس الفرنسي الشاب والجديد مانويل ماكرون، هو الذي قال في اول خطاب له ان مهمته هي العودة الى استحضار روح حداثة التنوير الفرنسي الأوروبي. واذا كان هذا التنوير يشار إليه في القرن الثامن عشر بانه فرنسي الطابع بامتياز، يمثله الثلاثي جان جاك روسو وديدرو وفولتير، فانه يمثل في موجته الثانية خلال القرن التاسع عشر ماركس وفرويد ودارون، وهذا الاخير صاحب الاكتشاف المعرفي العبقري في قانون تطور الانواع، عندما لاحظ ان القدرة على التكيف تتفوق على الأداء أي على القوة المادية او الحسية. وانه في هذا التكيف تقررت القدرة الحاسمة على البقاء.
وهذا هو القانون الذي أدركه عرفات و»فتح» مبكراً، واليوم نراه في عزلة إسرائيل وتطرفها وجمودها السياسي، الذي يجد انعكاسه أخيراً في اختلال وأرجحية التوازن العالمي في القوة أخيراً لصالح الفلسطينيين.
هذه هي المسألة اذن، فليس بالأنفاق وحدها تنتصرون، أدركت «حماس» المسألة او القانون أخيراً. لكن اليوم بالعودة الينا داخليا هل تدرك «حماس» المقولة التي وضعها لينين وكان هذا تكتيكياً بامتياز، وصاغها كالتالي: «خطوة الى الوراء خطوتان الى الامام» وكان قبله الرسول محمد ربما اكبر عبقري في التاريخ على مستوى التكتيك، وان هذه القدرة بل الجرأة على ممارسة هذا التكتيك هي محك اختبار السياسات.
ولا شك ان ظهور نتنياهو العلني وهو يمزق وثيقة «حماس»، سوف يظل هو المشهد الرمزي الذي يجسد هذه الهوة والاختلال لمصلحة الفلسطينيين على المستوى المعرفي او العقل السياسي مع عدوهم، الذي يواصل الغرق في التخلف والتطرف بل الجمود. فان الانتصار الحقيقي هو اليوم في التفوق على الذات في سد ثغرة الانقسام الداخلي، «فهنا رودس فلنقفز هنا».
وواجب الوقت ان نقول لكم ان هذه هي المعادلة التي تحكم العلاقة بينكم وبين الرئيس أبو مازن و»فتح»: فما تستطيعون القيام به يا «حماس» لا يستطيع الرئيس و»فتح» القيام به، ولكن ما يستطيع الرئيس و»فتح» القيام به لا تستطيعون اقله في المدى المباشر والمنظور القيام به. وهذا هو اختبار السياسات ان تجدوا المعادل لجسر هذه الهوة او حل هذا التناقض. واذا كان القائد أي الرئيس هو الحل لهذه التناقضات او التعارضات كما يقول نابليون، فهل يمكننا ان نفهم ان جرأته الضاغطة والأخيرة والتي هدفها الضغط عليكم للتسريع في حل هذا التناقض، بهدف التوحد معكم عبر القفز فوق هذا التعارض، انما هو التحدي الذي يعيد طرح الموضوعة الرئيسية هنا في فهم ممارسة التكتيك، خطوة الى الوراء لأجل التقدم معا الى الأمام؟.
والمسألة الحاسمة برأيي هي القدرة على التحليل او تقدير الموقف، وهذا التقدير او التحليل مفاده السؤال التالي: لماذا الآن يريد الإسراع وبأي ثمن الرجل إقناعكم بالمصالحة حتى عبر هذه الضغوط؟ والجواب لأنه تلوح لأول مرة فرصة جدية وحقيقية مع دونالد ترامب، كما لاحظ خالد مشعل بصواب لفرض تسوية لحل الصراع وإنهاء الاحتلال. وعلينا ان نذهب الى هذه الفرصة السانحة بإغلاق الشقوق والثغرات. فالاستراتيجية هي الاستعداد عند اللحظة الحاسمة. ويحسب لكم أنكم أحدثتم النقلة النوعية عند هذه اللحظة الحاسمة التي تقرب بينكم وبين ما يجمع عليه الكل الفلسطيني، وما بقي هو خطوة واحدة لإغلاق الثغرة هي خطوة لشراء التوافق وقد آن الإقدام عليها.
الايام
عن وثيقة حركة حماس الجديدة والاختبار الحاسم ..بقلم :حسين حجازي
Leave a comment