باريس ـ عبدالإله الصالحي /بفوزه بمنصب الرئاسة الفرنسية، نجح إيمانويل ماكرون في رهان سياسي استثنائي وأنجز مهمة كانت تبدو شبه مستحيلة. فالرجل الشاب الذي كان مجهولاً لدى الفرنسيين قبل ثلاث سنوات تمكّن من الزحف على قصر الإليزيه من دون جيش أو حزب. ولم يكن لديه أي تجربة انتخابية. وكل ما لديه سنتان فقط من العمل الوزاري في الحكومة الاشتراكية. لكن ماكرون كان مسلحاً بطموح شخصي استثنائي وذكاء سياسي مكّنه من تجاوز كل العقبات وهزم فريق كامل من القادة التقليديين يميناً ويساراً.
ولم تقع المفاجأة الكبرى في الدورة الثانية لتنتهي هذه الانتخابات الرئاسية التي حبست أنفاس فرنسا والعالم بفوز ماكرون وهزيمة مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، التي فشلت في أن تكون “ترامب فرنسا”، كما كان يحلم بذلك مناصروها. لكن نجاح ماكرون لا يحجب عدداً من الأسئلة والشكوك المؤرقة خصوصاً بعد بروز النتيجة النهائية لنسب الاقتراع. وبحسب النتائج النهائية، فاز ماكرون بنسبة 66.10 في المائة من الأصوات وهو رقم يتجاوز توقعات استطلاعات الرأي الأخيرة. لكن لوبان، على الرغم من هزيمتها، حققت اختراقاً انتخابياً تاريخياً وحصلت على نسبة 33.90 في المائة من الأصوات، فضلاً عن النسبة المرتفعة للمقاطعة التي تجاوزت 25 في المائة، وحوالى 8 في المائة من المسجلين في اللوائح الانتخابية الذين توجهوا لمكاتب التصويت ووضعوا بطاقات بيضاء في الصناديق وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات الرئاسية.
واكتسبت المعركة في الدورة الثانية يوم الأحد، بعداً انتخابياً استثنائياً، أعاد سيناريو انتخابات 2002 إلى الواجهة عندما تواجه جاك شيراك مع مؤسس حزب “الجبهة الوطنية” جان ماري لوبان. بمعنى آخر، هناك طابع استثنائي للتصويت لأن غالبية من الناخبين لم يصوتوا لصالح ماكرون وإنما صوتوا ضد “الجبهة الوطنية” ومارين لوبان. وهذا معطى أساسي يعكس حدود الممارسة الديمقراطية واللعبة الانتخابية في حد ذاتها.
هذه المعطيات ستتحول بسرعة إلى عامل ضغط على ماكرون بل إن العديد من أصوات الخصوم تعالت منذ الإعلان عن النتائج ليلة الأحد، للتشكيك في شرعية هذا الفوز أو على الأقل، بطبيعته الهشة.
ويجد ماكرون نفسه الآن مجبراً على النجاح في مهمة حاسمة بالنسبة لمستقبل الجمهورية الفرنسية وثوابتها السياسية. وسيستلم منصبه في حفل لانتقال السلطة يوم الأحد المقبل، بحسب ما أعلن الرئيس المنتهية ولايته أمس، الإثنين، فرانسوا هولاند. والنجاح يعني أولاً تطبيق ما أطلقه من وعود لا سيما في شقها الاجتماعي والاقتصادي، لأن الإخفاقات في هذين المجالين بالتحديد هي التي شكلت بيئة حاضنة لصعود الشعبوية السياسية في أقصى اليمين واليسار. وهذا ما أشار إليه ماكرون في خطابه أمام المحتفلين بانتصاره في ساحة اللوفر ليلة الأحد، حين أكد أنه سيصغي لمطالب واحتجاجات أولئك الذين صوتوا لصالحه كونهم يريدون قطع الطريق على لوبان، وحتى أولئك الذين صوتوا ضده لصالح لوبان.
هكذا، تبدو ولاية ماكرون الرئاسية المقبلة مثل معادلة سياسية صعبة رهينة بطبيعة نجاحها الهش. فالنجاح استناداً إلى غالبية متعددة المشارب يفرض عليه أن يستمع للجميع ويبذل الجهود ويتحرك في هامش ضيق. فالناخب المحسوب على مرشح اليسار الراديكالي، جان لوك ميلانشون، أو المرشح اليميني المحافظ، فرانسوا فيون، لا يعطي نفس المعنى للصوت الذي أدلى به لصالح ماكرون. فالأول يريد من ماكرون أنْ يلبي مطالب الملايين الذين صوتوا لصالح حركة “فرنسا غير الخاضعة” في الدورة الأولى، في حين أن ناخب فيون يتوقع من ماكرون سياسة أكثر قرباً من أفكار اليمين المحافظ ولا يريد أن يرى في “وسطية” ماكرون سوى جانبها اليميني.
وسيجد ماكرون خلال ولايته الرئاسية في مواجهة دائمة مع حزب “الجبهة الوطنية”، لأن الأخير حقق اختراقاً تاريخياً لا يمكن للطبقة السياسية إنكاره، إذ حصل على أصوات حوالى 11 مليون ناخب. ونجحت لوبان في ما فشل فيه والدها عام 2002 الذي لم يحصل سوى على 700 ألف ناخب جديد في الدورة الثانية في مواجهة شيراك. أما هي فقد حققت نصراً كبيراً في المقابل وكسبت 3.5 ملايين ناخب إضافي في الدورة الثانية. وهذا ما يفتح لحزب “الجبهة الوطنية” طريقاً جديداً لم يتعود عليه خلال تاريخه. فالحزب كان سجين ما يسميه المحللون السياسيون الفرنسيون “القبة الزجاجية”. وكان يستحيل عليه أن يتجاوز عدد الأصوات التي يحصل عليها في الدورة الأولى لكي يحقق الانتصار في الدورة الثانية، ولا يتمكن من توسيع دائرته الانتخابية. وهذا سر انهزامه في الدورات الثانية في الانتخابات التشريعية والإقليمية السابقة. وعلى الرغم من أن لوبان أظهرت أداءً غير موفق في الحملة الانتخابية بين الدورتين، خاصةً خلال المناظرة التلفزيونية في مواجهة ماكرون، إلا أنها نجحت في منح دينامية جديدة لليمين المتطرف وأضفت عليه شرعية ديمقراطية ستجعله لاعباً أساسياً في الساحة السياسية في السنوات المقبلة. وهاتان الدينامية والشرعية تظهران بشكل واضح، بالمقارنة مع الانهيار الكبير في معسكر القوتين السياسيتين التقليديتين، أي الحزب الاشتراكي وحزب “الجمهوريون”.
كل هذه المعطيات توحي ببروز مرحلة جديدة تعيد خلط الأوراق في المشهد السياسي الفرنسي. فتحالف لوبان مع المرشح اليميني السابق، نيكولا ديبون إينان، الذي وعدت بتعيينه رئيساً للحكومة في حال فوزها، يعكس حالة من ردم الهوّة بين اليمين المحافظ واليمين المتطرف على مستوى النخبة السياسية وإن كانت الهوة رُدمت في مكاتب التصويت من طرف الناخبين المتعاطفين من أقصى اليمين المحافظ أنفسهم الذين صوتوا بتلقائية لصالح لوبان.
وتبقى الخطوة الأولى أمام ماكرون هي النجاح في خلطة سحرية في تركيبة حكومته المقبلة. ولدى ماكرون مهلة بضعة أيام قبل 15 مايو/أيار لتعيين رئيس للوزراء وطاقم حكومي كامل. وتكمن الصعوبة الكبرى في سقف دفتر الشروط التي شدد عليها ماكرون نفسه في الحملة الانتخابية. فهو يريد وجوهاً جديدة نابعة من المجتمع المدني والاقتصاد، ويريد أيضاً أن تتوفر لدى فريق عمله خبرة سياسية لقيادة دفة الانتخابات التشريعية المقبلة. وهذا “البروفايل” المعقد ليس متوفراً بشكل كبير في فرنسا. وعلى الرغم من أن ماكرون أكد بأنه اختار سلفاً رئيس حكومته المقبلة من دون الإفصاح عن اسمه، بيد أن هذا الاختيار عملية معقدة. وترجح مؤشرات عدة أن ماكرون قد يتراجع عن الوجه الجديد الذي وعد به ويختار شخصية سياسية محنكة وذات تجربة كبيرة، مثل زعيم حزب الوسط (موديم)، فرانسوا بايرو، الذي كان قد منحه دعماً ثميناً قبل الدورة الأولى. وهناك أيضاً اسم يتردد بقوة وهو وزير الدفاع الاشتراكي، جان إيف لودريان، الذي دعم ماكرون بقوة منذ بداياته وهو يتمتع بشعبية كبيرة واحترام حتى من طرف خصومه اليمينيين، ويستند إلى أداء جيد على رأس وزارة الدفاع طيلة خمس سنوات كاملة من الولاية الاشتراكية المنتهية.
ويبقى الاحتمال الأخير أن يطبق ماكرون وعده الكبير المتعلق بتجديد النخبة السياسية ويعين وجهاً جديداً يكون من بين المقربين إليه في حركة “إلى الأمام”، ويتميز بصفات الولاء وتواضع الطموحات الشخصية. وماكرون لا يريد أن يكرر خطأ الرئيس فرانسوا هولاند، الذي دخل في دوامة من المشاكل بعد تعيينه مانويل فالس في منصب رئيس الحكومة وتبين في الأخير أن طموحاته كانت “قاتلة” بالنسبة لهولاند. ومن بين أهم الأسماء المتداولة، النائب الاشتراكي عن إقليم فينيستير (غرب فرنسا)، ريشار فيرون، الذي سبق أن قدم قانون ماكرون المتعلق بالإصلاح المالي في البرلمان عام 2014 ودافع عنه وهو يتمتع بتقدير قيادة حركة “إلى الأمام”.
وفي انتظار هذه “الطبخة” الحكومية، سيقوم ماكرون اليوم الثلاثاء بإعلان لائحة المرشحين عن حركة “إلى الأمام” إلى الانتخابات التشريعية في 11 و18 يونيو/حزيران، المقبلين، وعددهم 577 مرشحاً. وستكون الغالبية العظمى من هؤلاء وجوهاً شابة وغير متمرسة بالعمل السياسي. لكن اللائحة ستضم أيضاً عدداً من المرشحين المقربين من حزب “موديم” وبعض الشخصيات الاشتراكية واليمينية، التي انضمت إلى ماكرون وعززت حملته الانتخابية.
وتبقى الانتخابات التشريعية هي المعركة الأساسية التي يتحتم على ماكرون كسبها بأقل الأضرار الممكنة، وعليه أن يضمن غالبية برلمانية تتيح لحكومته أن تعمل في أجواء مريحة وتطبق البرنامج الانتخابي وإصلاحاته المنتظرة من دون عرقلة تشريعية. وإذا لم ينجح ماكرون في ضمان هذه الغالبية، فسيدخل في دوامة التحالفات البرلمانية ويضطر لتقديم تنازلات سياسية تضعف موقعه الرئاسي لكن دون تعطيله. والسيناريو المتوقع في هذه الحالة، هو أن تقوم الأحزاب التي ستمثل في البرلمان، خصوصاً الحزبين الاشتراكي و”الجمهوريون”، بتبني مقاربة بنّاءة في التعامل مع ماكرون وحكومته، ولو على مضض، خشيةً من أن يساهم تعطيلها لعمله، في إيصال فرنسا إلى حافة الهاوية. وهذا يعني أن قيام حكومة وحدة وطنية، أو حكومة تتمتع باحتضان من قبل اليسار واليمين التقليديين، ليست مستبعدة بعد الانتخابات التشريعية الشهر المقبل، إذا لم يعط الناخبون الفرنسيون غالبية برلمانية للرئيس ماكرون
العربي الجديد