تماماً في الوقت الذي انهمك فيه الساسة البريطانيون في محاولة لاتخاذ القرار النهائي حول المشاركة في قصف العراق مرة أخرى أو الإحجام عن ذلك، نشر الصحفي البارز باتريك كوبيرن أول تأريخ مركز لصعود تنظيم “الدولة الإسلامية” أو الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام.
وفي الحقيقة، ليس هناك من هو أكثر تأهيلاً وتجهيزاً منه للاضطلاع بمثل هذه المهمة، فقد كان باتريك كوبيرن، أحد أعظم مراسلي الحرب لدينا، قد رصد تحولات التمرد العراقي والحرب الأهلية السورية بتركيز واستمرارية. ويقدم كتابه قراءة متبصرة مقنعة. وهو يتعقب تكوين تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى جذوره أيام الغزو الغربي للعراق قبل أحد عشر عاماً، عندما قام الغزاة الأميركيون بحل جيش صدام حسين. وعندما لم يبق لهؤلاء أي مكان آخر يذهبون إليه، ضم البعض منهم قواهم إلى تنظيم القاعدة وانخرطوا في ثورة وحشية ضد ما نظروا إليه على أنه احتلال أجنبي لبلدهم.
بعد ذلك، مني تنظيم القاعدة في العراق بهزيمة كبيرة على أثر “زيادة عديد القوات” في العراق التي أجراها الجنرال الأميركي بترايوس في العام 2008، لكن ذلك الانتصار الجزئي لم يحظ بالمتابعة والتعزيز. ثم عندما غادر الأميركيون العراق، قاد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إدارة شيعية لم تقم ببذل أي محاولات جدية في سبيل جلب السنة إلى الحكومة. وربما كان تهميش القبائل السنية ليفرز تداعيات محدودة لولا الثورة السورية التي بدأت في صيف العام 2011. كان ذلك التمرد السوري مدعوماً من الغرب، لكن المتشددين سرعان ما هيمنوا على القتال، وسيطروا على مساحات واسعة من مناطق شرق سورية وغرب العراق، وقام هؤلاء عملياً بإلغاء الحدود الدولية هناك.
في هذا الكتاب المتماسك، يبين كوبيرن كيف عملت مجموعة متراكبة من الأخطاء التي ارتكبتها الولايات والمتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على تهيئة الظروف وتمهيد الأرضية لصعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام. أولاً، ترك الغزو الأميركي والغربي للعراق في العام 2003 وراءه أقلية سنية محرومة وموتورة. ثانياً، صنعت الرعاية الغربية للتمرد السوري ميداناً مثالياً لنشاط محاربي “أبو بكر البغدادي” المتعطشين للدماء. ويبين كوبيرن أن أجهزة الاستخبارات الغربية كانت متورطة بكثافة عند كل مستوى، لكنها كانت جاهلة مع ذلك بما كان يحدث فعلاً على ما يبدو.
لقد فشلت تلك الأجهزة في فهم الكيفيات التي شهد بها تنظيم القاعدة مجموعة من التحولات بعد 11/9. ومع أن مقتل أسامة بن لادن في أوائل العام 2011 حظي بقدر كبير من الترحيب والإشادة باعتباره انتصاراً هائلاً، فإنه كان في حقيقة الأمر إيذاناً بظهور تهديد أكثر خطورة وفتكاً بكثير. وبالإضافة إلى ذلك، قللت أجهزة الاستخبارات الغربية إلى حد كبير من شأن صمود نظام الأسد ومقاومته، وتنبأت باحتمال سقوطه الوشيك بشكل متكرر. ثم برهن الجيش السوري الحر، أداة الغرب المفضلة، والتي وافق الرئيس باراك أوباما تواً على تزويدها بالمزيد من التمويل، أنها ليست أكثر من مجرد وهم. وبكلمات أخرى، اختار الغرب حلفاءه بشكل سيئ أيضاً.
كانت الدولتان اللتان لهما أكبر صلة بالهجمات التي شنت على البرجين التوأمين في نيويورك في العام 2001 هما العربية السعودية، التي جاء منها معظم خاطفي الطائرات، وباكستان، راعية حركة طالبان. وقد رفض الرئيس جورج بوش اتخاذ أي إجراءات يعتد بها ضد أي من هذين البلدين. ويبين كوبيرن في روايته أن التمويل السعودي لعب دوراً كبيراً في خلق تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام. لكن العربية السعوديين استيقظوا أخيراً فقط، بعد أن أصبح الوقت متأخراً جداً على حقيقة الوحش الذي خلقوه. ولم يكن حتى شباط (فبراير) حين حاول الملك السعودي عبد الله وقف المواطنين السعوديين عن السفر من أجل القتال في سورية. وقد تبين مع الوقت أن أكثر أهداف “داعش” أهمية هو العربية السعودية نفسها.
لا يقترح هذا الكتاب القصير أي حلول. ربما لأنها ليست هناك أي حلول في واقع الأمر. كانت التدخلات الغربية في السنوات القليلة الماضية -مثلما حدث في العراق في العام 2003 ثم في ليبيا في العام 2010- قد جلبت تداعيات كارثية فقط. لكن هذا الكتاب يظل مرجعاً لا غنى عنه لكل من يرغب في فهم الظاهرة الجديدة المرعبة التي شرعت تعرض مسبقاً دلائل على إلهام مجموعات من الساعين إلى محاكاتها في شمال أفريقيا وباكستان.
الغد الاردنية