في هذا العدوان مارست إسرائيل كل أنواع جرائم الحرب؛ التطهير العرقي، الإبادة الجماعية، التدمير الممنهج، العقوبات الجماعية، التهجير القسري، قصف المنشآت المدنية، قصف المؤسسات المحمية بموجب القانون الدولي، قتل الأطفال والمدنيين.. مارست جرائمها بلا شفقة، ودون أي اعتبار للقوانين الدولية، وللقيم الإنسانية.
وتزعم إسرائيل أنها تحارب حركة حماس فقط، وتصفها بالإرهابية، وهذا خداع وتضليل، فتحت هذا الغطاء تواصل عدوانها على الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، لتدمير مقدراته، والقضاء على مقومات الحياة والبقاء حتى يتحول القطاع إلى مكان غير صالح للعيش، بما يدفع بسكانه للهجرة، ليتضح أن هدفها الحقيقي هو قتل المدنيين، وأن هؤلاء الشهداء والضحايا ليسوا أعراضاً جانبية للصراع؛ بل هم الهدف بحد ذاته.
ولكن، لماذا اعتمدت إسرائيل سياسية التدمير المنهجي؟ وكيف حققته؟
وفي حربها العدوانية لا تستهدف إسرائيل البشر وحسب، بل تهدف أيضاً إلى تدمير وتخريب كل ما يتصل بحياة الفلسطينيين، فقد دمرت القطاع الصحي والبنية التحتية لتدمير الحاضر وجعل الحياة مستحيلة، ودمرت القطاع التعليمي من مدارس وجامعات للقضاء على مستقبل غزة، وسعت لتدمير الماضي والتراث الثقافي والحضاري الفلسطيني، من مواقع أثرية، ومبانٍ تاريخية ودينية كالجوامع والكنائس، ودمرت المتاحف والمسارح والمكتبات، والمؤسسات الثقافية والأكاديمية، فقد دمرت نحو 200 موقع أثري وثقافي في غزة؛ رغم حصولها على إحداثيات هذه المواقع الأثرية من اليونسكو التي طالبت إسرائيل بعدم استهدافها.
وهذا التدمير جزء أصيل من أهداف الحرب؛ فهذه المؤسسات والصروح الحضارية والمواقع الأثرية الفلسطينية هي النقيض الأساس للرواية الصهيونية المزعومة للصراع، والتي أثبتت الحفريات الأثرية تهافتها. فحرب الرواية هي جوهر الصراع الأساس.. والباقي مجرد تفاصيل وعوامل مساعدة.
وفي كل المواقع التي استهدفتها بالقصف كانت تركز على المنازل والمنشآت المدنية، وفي المناطق التي اجتاحتها الدبابات كانت تعمد إلى تخريب البنية التحتية، فتجرّف الشوارع المعبدة وأرصفتها، وما تحتها من تمديدات مياه ومجارٍ وكهرباء واتصالات.. وهي منشآت وبنى مدنية لا علاقة لها بحماس ولا بالمقاومة! حتى البيوت الفارغة التي نزح سكانها قسراً تعمد إلى إحراقها وتخريبها.. وأي مجنون يصدق أن هدفها من وراء ذلك المقاومة، وحاضنتها الشعبية؟
الهدف الحقيقي من وراء كل ذلك التخريب هو القضاء على الذاكرة الفلسطينية، فهي تستهدف المكان بحد ذاته، وعلاقته بالناس، وبالماضي، والمستقبل.. تستهدف كل مكوناته وعناصره لتشويه معالمه أو إلغائها كلياً..
وفي الحالات التي يتمكن بها بعض النازحين من العودة إلى مناطقهم تعتريهم على الفور صدمة نفسية عنيفة، صدمة إنكار المكان، صدمة عدم التعرف على بيوتهم، وعدم تمييز الشوارع والأزقة والبنايات وكأنها شيء مختلف كلياً عمّا ألفوه وعرفوه وعاشوه طويلاً.
البيوت والأحياء والبنايات ليست مجرد حجارة وأكوام من الإسمنت وشوارع معبدة وأعمدة إنارة وتمديدات مجارٍ ومياه.. لو كانت كذلك لأمكن تعويضها.. هي أكثر من ذلك وأعمق، وأشمل بكثير.. هي الذكريات، والهواجس، والآمال والأحلام، والأحزان، وحكايات الناس، ومشاعرهم، وتفاصيلهم الصغيرة.. هي الحارة بقصصها وشخوصها وأبطالها وناسها المنسيين والعاديين الذين يصحون مبكراً، ويمارسون طقوسهم الصباحية مثل بقية الخلق، ويعودون مساء محمّلين بالأكياس، أو بالهموم.
هي الدكان، ودفتر الديون، وسهرات المساء، وانتظار الغائبين من سفر بعيد.. هي ذكريات الطفولة، ومدارج الصبا، وشقاوات المراهقين، هي أحلام الشباب المنكسرة والمتحققة.. هي قصص الحب، وخذلان الحبيب، وأغاني العاشقين، هي الأعراس، وحفلات التخرج، وفرص العمل ومخططات السفر.
هي ملاعب الأطفال، وضحكاتهم على عتبات البيوت، هي التلاميذ ودفاترهم ومدارسهم، هي سهر الأم مع الكمادات لطفلها الذي يعاني من سخونة.. وقلق الآباء على أبنائهم الساهرين في المقاهي.. هي صلاة الفجر باطمئنان، هي انتظار نتائج التوجيهي، ومسلسل السهرة، وإفطارات رمضان، وترقب موسم الفراولة.. هي الحاج أبو محمد وحكاياته المسلية “اللي نصها” كذب، وأبو خليل بنكاته البذيئة، وأم ناصر التي تكيد لكنتها، والصيدلانية تهاني، والدكتورة رهف، والكاتب الواعد أمير، واليوتيوبر الذكي محسن، ولاعب الكرة البارع مراد، وهند الحالمة بأن تصبح طبيبة، والفرقة الموسيقية التي يطاردها الشيوخ من شارع لآخر.. هي الناس المحبة للحياة، والتي تحاول جهدها التكيف مع الواقع المرير.
كل ذلك، صار ذكرى بعيدة، وتكاد توغل في النسيان، حتى الصور التي توثقها تم حرقها، إذ لم تتمكن معظم العائلات من حمل ألبوماتها معها في رحلة النزوح نحو المجهول.. كل ذلك صار أثراً بعد عين، صار ركاماً، بل وتكدست من فوقه أطنان الردم، وأكوام النفايات، وفاضت عليه المجاري.. مشهد حزين لا يمكن وصفه بالكلمات.. يعرفه فقط أبناء غزة، وحدهم القادرون على وصفه، وتمثّله، وعيشه بكل الألم والحرقة، وبالدموع والدماء.
أراد العدو الهمجي كل ذلك، فعله عن سبق الإصرار والترصد.. أراد محو المكان، وطمس معالمه، والقضاء على كل ما يتصل به من علاقات وتفاعلات وذاكرة وتاريخ.. حتى لا تعود غزة التي نعرفها.. وحتى لا يعود مجتمعها، وناسها.. إنها حرب عدوانية ممنهجة استهدفت الإنسان أولاً.. وكل ما حوله.. أرادت تحويل الفلسطيني إلى مجرد نازح، يسكن في خيمة، وينتظر المساعدات، ويقضي جل يومه في طوابير الذل.. وقد أصبح كل همه مغادرة هذا الجحيم..
وهذه هي النكبة بأقسى معانيها.
الواقع الآن صعب ومرير، والتحديات فوق طاقة التحمل، لكن التاريخ يخبرنا دوماً أن الشعوب تنتصر على الجيوش، وأهل البلاد يمتصون الغزاة، ثم يلفظونهم.. وشعبنا عصي على الانكسار.. وطالما أنه يتطلع نحو المستقبل، فإنه حتماً سينتصر، وسيكون له المستقبل.
غزة، واغتيال الذاكرة .. بقلم :عبد الغني سلامة
