قبل ستين عاماً مضت، كنت موظفاً شاباً في قسم الخدمات الخارجية، ووقفت على حدود غزة إلى جانب موظف الاتصال من وزارة الخارجية الإسرائيلية. وقد كانت إدارة «آيزنهاور» تستخدم كافة السبل للضغط على إسرائيل كي تنسحب من قطاع غزة إبان حرب عام 1956. ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك « بن جوريون» عارض هذه الفكرة بكل ما أوتي من قوة. وأخبرني موظف الاتصال الإسرائيلي: «إن ما نريده حقيقة منك هو أن تقنع البرازيل بقبول جميع سكان القطاع وإعادة توطينهم في الأمازون». ولا أدري إن كانت هذه مجرد فكرة طرأت إلى باله أم أنه كان اقتراحاً حقيقياً، لكنه قال ذلك وعلامات الجدية تعلو قسمات وجهه!
وباستغراب شديد أجبته: «حسناً، لن نوافق أبداً على ذلك، ولكن ربما يمكننا ترتيب احتفاظكم بغزة إذا استوعبتم غالبية الفلسطينيين من لاجئي 1948». ولن أنسى النظرة التي كانت على وجه صديقي الإسرائيلي عندما قال: «يا إلهي، قضيت عامين بمكتب إسرائيل في واشنطن، وعام في تل أبيب، وما زلت لا تعلم أي شيء عن إسرائيل».
وبعد عامين، تحدثت مع مساعد وزير الخارجية «جورج ألين»، رئيس قسم الشرق الأدنى. وأعرب عن دهشته، حيث أوضح أنه أيضاً كان قد اقترح عرضاً مماثلاً على وزير الخارجية «جون فوستر دالاس»: غزة في مقابل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى منازلهم في إسرائيل. وكانا في البيت الأبيض حينئذ، وأجاب «دالاس» مباشرة: «كلا، فذلك سيكون بمثابة مكافأة العدوان».
ودعونا نعود إلى الحاضر، فقد اقترح «موشيه فيجلين»، نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي الشهر الجاري، في مقال افتتاحي أن تعاود إسرائيل احتلال قطاع غزة، وتطرد كافة سكانها ـ ليس إلى البرازيل وإنما إلى صحراء سيناء. وقال: «إن عليهم التفكير في التوجه إلى سيناء، وهي ليست بعيدة عن غزة».
ويعتقد «فيجلين» أن غزة يجب ضمها إلى إسرائيل. وأنا على يقين أنه لن يُمانع لو أن كافة الفلسطينيين اختفوا في الأمازون، بعيداً عن العين والعقل. ومن جانبه، يتصور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هدفاً ربما أكثر موضوعية: إذ لا يرغب سوى في تدمير “حماس” ونزع سلاح غزة. وأما بالنسبة لـ”حماس”، فهي تعارض بقوة حل الدولتين. ولا شيء من ذلك يبدو واقعياً. ففي عام 2010، شاهدت مجموعة مكونة من 500 موظف خدمة خارجية متقاعد يسألون هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك بشأن حصار غزة. وأجابت بصراحة قائلة: «ليس لدي حل»، وعندما اقترح بعضنا لاحقاً أن الخطوة الأولى ينبغي أن تكون التحدث إلى “حماس”، لم نتلق رداً من مكتبها.
وقد زرت غزة في عدد من المناسبات، ودائماً كنت أحاول التحدث إلى مسؤولين من “فتح” و”حماس”، وفي عام 2006، عبرت معبر رفح على حدود غزة مع مصر بصفتي مراقباً دولياً للانتخابات. ويعتبر البعض أن حرب غزة الحالية أنعشت حظوظ “حماس” السياسية بعد فتورها. وخلال العام المقبل، سيكون عيد ميلادي التسعين. وقد قضيت معظم سنوات عمري أحاول المساعدة في حل هذا الصراع المرعب. ويبدو من الواضح بالنسبة لي أن في مصلحة جميع الأطراف، لا سيما إسرائيل، وضع الأسلحة والجلوس والتحدث. وقد آن أوان رفع الحصار عن قطاع غزة. ونعرف جميعاً حدود أية تسوية عادلة والتي تتضمن: إقامة دولتين على حدود عام 1967. بيد أن البديل الوحيد للدبلوماسية هو حرب بلا نهاية، ولن يكون ذلك في مصلحة أحد. ويجب أن لا نكافئ العدوان، من قبل أي طرف.
*رئيس مركز السياسة الخارجية الدولية- واشنطن
عن الاتحاد الاماراتية