بعد 51 يوماً من مواجهتها للحرب الاسرائيلية على غزة، فرضت المقاومة الفلسطينية وقف إطلاق النار وكسر الحصار لتضع نهاية حاسمة للعجرفة والاستهتار ، ولتسقط وإلى الأبد ليس “أسطورة” الجيش الذي لا يقهر وحسب، بل ولتفاجئ الرأي العام في عالمنا الدولي والإنساني الذي بقي أسير الاعتقاد أن لا أحد بمقدوره مواجهة إسرائيل في أي مجال كان، فكيف في الجانب العسكري الذي يعتبر الأقوى في هذه المنطقة، وهو إلى ذلك يتكئ إلى الدعم والإسناد الذي تقدمه بسخاء الولايات المتحدة، إذ في مقابل هذا فشلت الحرب في تحقيق أهدافها ومنيت إسرائيل بهزيمة استراتيجية عسكرية وسياسية، ولأول مرة لا تخرج من حروبها بمكاسب بل تدخل نفق دفع ثمن الدمار وفي أزمة داخلية عميقة وحادة ومتداعية .
كيف حدث هذا؟
قد يكون مناسباً الإشارة إلى أن هذه الحرب لم تكن من أطول الحروب الاسرائيلية في انتهاكات الحرب ضد الإنسانية فقط، بل كانت من أشمل الحروب وأوسعها في الأراضي الفلسطينية المحتلة .
فالحرب بدأت في الضفة الغربية وامتدت إلى القدس وانفجر بركانها على غزة، وبهذا المعنى كانت الحرب حرب اسرائيل لا حرب المقاومة، التي لم تتفاجأ بالعدوان لكنها اجترحت المفاجآت التي غيرت مجريات الأمور وفتحت بوابة الزمن الفلسطيني المفتوح على استعادة الحقوق المسلوبة، ومن المفاجآت:
التأثير البالغ في الوضع داخل إسرائيل بعد أن امتدت يد المقاومة إلى العمق، والارتباك الذي أصاب القيادة العسكرية الاسرائيلية والعجز الذي وصل لأول مرة في إسرائيل حد الطلب من المستوطنين في حدود غزة البحث عن ملاجئ .
الرد على استهداف الوفاق الوطني بتناغم العمل السياسي للسلطة والكفاح الميداني للمقاومة والتصدي للاستفراد بالمقاومة بجبهة المواجهة التي انخرطت فيها كافة فصائلها، والالتفاف الشعبي الذي كان يتعاظم في وجه التدمير الشامل والقتل المفتوح والذي عاشه الفلسطينيون بتضحياتهم في غزة وبمشاركتهم الفعالة في الضفة والقدس وسكان الداخل الفلسطيني وفي الشتات، وهم وحدهم الذين أحدثوا التغيير في المعادلة لمصلحة قدرة إرادة الحق الفلسطينية الانتصار على قوة اسرائيل .
نعم لقد كانت التضحيات كبيرة، التدمير طال الآلاف من المباني والوحدات السكنية والأبراج والمجمعات التجارية والمدارس والكنائس والمساجد والمستشفيات والأسواق والحدائق والملاعب والمزارع والورش والمعامل وكامل البنى التحتية من كهرباء ومياه وآلاف الشهداء منهم 600 طفل وقرابة عشرة آلاف جريح وفي الأغلب أطفال ونساء ومسنون .
من هذه التطورات الفلسطينية يمكن القول إن أيام غزة أحدثت تغييراً جذرياً عما كان عليه الوضع في شأن ما يعرف بالأزمة “الشرق أوسطية”، فهي لم تعد قابلة للارتهان للعبة المفاوضات الأميركية ولا الابتزاز والاسرائيلي .
والأدل على هذه الحقيقة إعلان القيادة الفلسطينية في يوم إعلان اتفاق وقف إطلاق النار خطوط مسار العمل الوطني في المرحلة القادمة وهي: احترام وقف إطلاق النار والتمسك بالوحدة الوطنية وتعميقها ووضع خطة وطنية لإنهاء الاحتلال ومواصلة الشعب الفلسطيني لكفاحه واستعادة حقوقه المسلوبة والانتصار للسجناء الفلسطينيين والانعتاق من قبضة الاحتلال .
وقبل هذا إعلان الرئيس الفلسطيني أن “الدخول في مفاوضات غائمة أمر غير مقبول”، كما أن عالمنا بأسره صار لا يحتمل استمرار فظائع الانتهاكات الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني .
هنا يمكن القول لقد كان الفلسطينيون ومقاومتهم في مواجهة العدوان أكبر وأكثر مما كان مطلوباً منهم، وقد اجترحوا معجزات قهرت القوة الاسرائيلية وعليهم الآن أن يسموا عن الصغائر التي يجد فيها المتلاعبون بقضية هذا الشعب ضالة خداعهم لغايات وعلى حساب الوحدة الوطنية الفلسطينية .
للفلسطينيين كامل الحق بهذه اللحظة من النصر الذي اجترحوه بإرادتهم وسطروه بدماء شهدائهم وجرحاهم ومهروه بأغلى تضحياتهم أن يفرحوا ويردوا على تباكي نتنياهو لأحوالهم و”تعاطفه” بكل ما لديه من عنف