غزة / يدخل شهر رمضان المبارك يومه الثاني ، وقطاع غزة أحد أهم عناوينه الصعبة والمعقدة ، فالحصار الذي تركه منذ سنوات سبع وعاشه تكراراً ، باقٍ كما هو ، بل زاد عليه اغلاق معبر رفح البري ، وسمنت قوائم الممنوعين عبر معبر بيت حانون “ايرز” ، وتقلصت أميال البحر للصيادين ، وجفت الارض بحكم ملوحتها وقلة مياهها في البر ، اما عن البطالة والفقر ونزول فئة الموظفين الى منطقة رمادية فهذا واقع بات يهدد قطاع غزة المعاشي .
طريق رمضان في قطاع غزة يجب أن يمر عبر بعد البيوت العشوائية ، ومنها حفر عائلية وجدت في المقابر ، وفي الحارات الضيقة بيوت من “اسبست” تبكي على من يسكن تحتها ، وفي بعض المناطق المهمشة والبعيدة عن التجمعات السكنية المكتظة ، تجد بشراً لا ينتمون الى طبائعنا الغذائية ، فيكتفون بوجبة واحدة ، قوامها الماء والخبز وفتات الارض ، وأمثلة كثيرة تدمي القلوب ، يكشفها رمضان أو يعيد إظهارها على المشهد لأن من مهامه الاساسية ، التعاضد والتكافل واشباع الفقراء ، ومساعدة من يحتاج المساعدة.
وفي المقابل تجد كسلاً واضحاً في جمعيات خيرية كانت تدب نشاطاً في سنوات سابقة ، حتى أنها اصبحت علاجاً مجتمعياً لكثير من أمراض الحاجة والفقر ، اليوم باتت عناوين ، وغبار على طاولاتها وكراسيها ، ملل على السنة العاملين فيها ، اشبعتهم قلة ذات اليد الممدودة اليهم من خارج القطاع ، وعوداً ، ولكنهم كما يقولون نسمع طحناً ولا نرى طحين، وفي الاسباب ، القوائم المتزايدة المحظورة من ارسال أموال الى قطاع غزة ، بحجة مكافحة الارهاب ، فأصبح الممولون يختفون عن الانظار في بلاد الغرب والعالم الاسلامي ، حتى لا يصاب أحدهم بسهم العقاب بعد المراقبة ، فنسي الفقراء والرسالة السامية والوصايا الالهية ، وانحبس في صندوق المنع الذي فرضه عليه أعداء الانسانية في الغرب .
في المقابر تجد البعض يلهث طوال عامه خلف لقمة تسد رمق اسرته ، التي تتزايد بين الحجارة والرمال بدون سقف ولا جدران ، ليمارس رياضة الحياة بكل قسوة ، ويعيش رفاهية إذا ما وصله كيلو خبز فاخر ، أو كيلو طماطم ، ليعيش ليله انساً ونهاره فرحاً .
في المقابل ترى اناسٌ يبيعون ملابسهم القديمة ، وبعض الامتعة المنزلية ، من بعد أن باعوا مدخراتهم الثمينة ، لكي يجاروا الحياة ويستروا انفسهم خلف الجدران ، ولا تستغرب أن هؤلاء محسوبين على أنهم موظفين حكوميين ، ولكن عرجة الست تفسد ألف عريس ،تقطعت بهم السبل وتعلقوا على حبال الانتظار ، وعاشوا منذ ثمانية أشهر وأكثر على سلف بالكاد تفي دفتر الديون في المحال التجارية للمواد الغذائية ، أو تساهم في تسديد فواتير الكهرباء التي لا تحضر إلا مروراً سريعاً ولكنها تحسب مالياً على أنها كانت واقامت واوفت بالمطلوب ، ولا يستغني المرء في قطاع غزة ، عن الأدوية المحتومة بعد هذا الواقع المرير ، فحصاره وقلة ذات اليد ، وحبال الانتظار ، وجحور المقابر والحارات الجائعة توصله الى انسدادات في الشرايين ، وكسل في عمل القلب ، واحياناً اضطراب في الرؤية ، و”خلبطة” في المشي ، ولهذه لا بد من علاج ، ولأن العلاج من الممكنات الصعبة في غزة ، أصبحت عيادات وكالة الغوث والمستشفيات العامة ، ذات العلاج الموصوف سلفاً ، بدواء واحد أو مختار لجميع الامراض جاهزة ، كان لا بد للمريض الفقير أن يقف أمام علاجه حائراً ، اما تحمله الى أن يموت أو أن يضحي بقرشه الذي يسد به جوعه ، وجوع اسرته لكي يشتري زجاجة الدواء من الصيدلية أو يزور مركز الاشعة ، لكي يدخل على طبيب خاص ، يبتسم في وجهه ويفتش في جسده عن أمراض ، ما كانت لتكون لو أن عاشاً بشكل طبيعي ككل البشر في العام .
اما البطالة فهي عكس كل الاشياء التي في قطاع غزة وتشارك الفقر في صفاته بالزيادة الطردية ، وتكديس خريجي الجامعات والمعاهد ، تكدس الهموم والشجون والاحزان في قلوب المحاصرة بلادهم .
وأن تجنبت الحديث عن السفر ، وحرية الحركة ، تفسد ضميرك بالنفاق ، فالانسان الفلسطيني في قطاع غزة شبه مشلول حركياً ، لا يستخدم اطرافه ولا عيونه في غير بقعة جغرافية محدودة للغاية ، هي خط صلاح الدين الرئيس من الجنوب الى الشمال وبعض الشوارع الفرعية المتغلغلة في الحواري والمباني ، يتخللها حديقات صغيرة ، بعدد من الحيونات الاستوائية النحيفة ، والحدائق المرمية للإهمال ، وعدم المتابعة ، وعدد من المقاهي المرتجفة ، والمطاعم التي تغزةها الشائعات بلحوم فاسدة ، وفنادق تدعي أنها تنتمي الى السياحة ، وهي ككل الاشياء متروكة لملح البحر يأكل جدرانها ، وللفراغ ينهش فيها .
وأن سألت من بعد الفقراء عن أقل حقوق الانسانية فيها ، وهي المياه ، فراجع أخر تقارير الأمم المتحدة ، وبعض جهات البحوث والاختصاص ، لتعلم أن نسبة المياه الصالحة للشرب في قطاع غزة لا تتعدى عدد اصابع اليد الواحدة 5% وكل ما بعدها لا يصلح للشرب ، كما البحر الذي اغلق هذا الصيف لأن المياه العادمة “دعوشته” فأصبح قاتلاً لا يؤمن مكره !!!.
كل هذا ورمضان لا زال يكشف خفايا مليوني نسبة إلا قليل في قطاع 360 كم مربع ، ينفصه الشريط الحدودي الغصبوي المفروض من قبل الاحتلال ، ويتغلغل فيه مناطق واسعة لا تصلح للحياة بحكم قلة امكانيات استغلالها وايصال المياه والطرقات اليها ، ولم تعد صالحة حتى للزراعة بحكم ملوحة تربتها .
قطاع غزة المهدد اليوم بعمل عسكري اسرائيلي واسع ، يفتقد الى كثير من مقومات الحياة الكريمة المنطقية والعادية جداً ، فما البال في مقومات الصمود ، مع وفرة في ارادة أهل القطاع ، الذي لا يمتلك غير دماء شبابه ليقدمها على مذبح البقاء والتحدي .
ليمر عليك شاب عشريني ملثم ، يخرج من جامعته نهاراً ليدخل في حراسة حدود القطاع ليلاً ، مبتسماً وشامخاً واذا سألته عن أوضاع قطاع غزة يقول لك :” كل شيء تمام”.
امد