ليس سهلاً إخراج القضية الفلسطينية من التجاذبات الإقليمية. الوجود المادي الفاعل للمقاومة في الضفة والقطاع المحاصرين محكوم بالجوار العربي وتفاعلاته وخياراته. المخرج الممكن هو الحد من الاندفاع في الرهان على هذا الخارج وتقوية الوحدة الوطنية من خلال وحدة المؤسسات والبرنامج، الأمر غير المتوفر من قبل.
الخلاف كان عملياً منذ اتفاق أوسلو وليس من تاريخ سيطرة «حماس» على قطاع غزة. الانقسام بين المنطق التفاوضي الذي يراهن على ترويض المطالب الإسرائيلية وتعاطف المجتمع الدولي، وبين المنطق العسكري الذي لا يكشف عن برنامجه السياسي النهائي أو المرحلي، والذي صار محكوماً إلى الجهات التي تؤمّن له السلاح والتمويل.
امتحن العدوان الإسرائيلي على غزة هذه الخيارات في بيئة عربية وإقليمية مختلفة. العنصر الإيجابي الأول بعد صمود القطاع وتضحياته والكشف عن استعداداته هو في حكم الضرورة الذي ألزم الأطراف في العودة إلى الشرعية الوطنية والإطار والسقف والإدارة المشتركة للعمل السياسي. لكن الأهم أن التفاوض بدأ في الميدان وفي ظل المقاومة. ربما هي المرة الأولى التي يحصل فيها هذا التكامل. وحدة الوفد المفاوض ووحدة المطالب والمرونة التي فرضت نفسها في التعامل مع الخارج وتراجع بعض الأدوار غير الجدية وغير الفاعلة أو بيان حدود تأثيرها.
في المحصّلة لم تعد المعركة السياسية في غزة لا كجغرافيا ولا كتيار سياسي أو إيديولوجي ولا كخيار إقليمي. هذا إنجاز فرضه الصمود والتضحيات وإلى حد بعيد عقم المشروع الإسرائيلي في هذه الحرب وانغلاقه على أية أفكار تستجيب للمعطيات الميدانية. بهذا المعنى فشلت الديبلوماسية الإسرائيلية بالتوازي مع تلك الأهداف المعلنة للعدوان وهي نزع السلاح وعناصر القوة الأخرى من غزة.
إسرائيل أرادت من الحرب على غزة تحقيق أهداف استراتيجية ظناً منها أن المعطيات الفلسطينية والإقليمية تسمح بذلك، لكنها فشلت في استثمار كل العناصر المقدرة لمصلحتها ونجح الصمود الفلسطيني في إيجاد تغيير ولو محدود في هذه البيئة.
بقطع النظر عن حجم القوة العسكرية لدى المقاومة فهي فرضت نمطاً جديداً من التعامل لكونها تفاوض وهي تقاوم ولديها المشروعية والتأييد الشامل في الإصرار على مطالبها.
لا يجوز أن نبالغ في حجم تأثير معركة غزة في استعادة أولوية القضية الفلسطينية أو حتى في التقاء المتناقضات الإقليمية من حولها. فهناك إشكاليات كثيرة تحتاج إلى زمن لحلها ومنها طبيعة العلاقة بين «حركة إخوانية» في غزة ومصر بعد ما جرى من مصادمات، أو إعادة التوازن في علاقة «غزة» مع المحاور المعروفة ومنافساتها وتغيير مواقف حماس ورهاناتها.
لكن يجب أن نسجل على الأقل أن «حماس» خرجت إلى حد معيّن من فكرة السلطة المستقلة واستعادت بعضاً من ارتباطها في القيادة الشرعية للضفة كأحد عناصر ومكوّنات الحركة الوطنية.
هناك دروس لمعركة «غزة» تفرض نفسها لاحقاً. المهم الآن أن بوادر قطف ثمار هذا الصمود بالتفاوض العاقل وبتوحد الشعب الفلسطيني حول النقاط العشر هو من الدلائل الإيجابية.
يحتاج الشعب الفلسطيني قطعاً إلى مراجعة شاملة لتجربته ليس فقط انطلاقاً من حصيلة النضال الطويل وأشكاله ونتائجه بل كذلك لأن المتغيّر الإقليمي أكبر وأخطر مما يمكن أن نتصور على القضية الفلسطينية. لا شك أن منسوب التعاطف الشعبي الغربي ظهر بوضوح هذه المرة لكن الخلل في الشارع العربي كبير والخلل في المعادلات الإقليمية أكبر، والاتجاهات الدولية أكثر عداء لقضية فلسطين ومن بين ذرائعها هذا العنف غير المسبوق في المنطقة.
عن السفير اللبنانية