قبل أيام، قام جو بايدن نائب الرئيس الأميركي بزيارة لألمانيا في جهد لتقوية الروابط بين ضفتي الأطلسي. وكانت العلاقات الكونية قد وصلت إلى نقطة جمود في الأعوام الأخيرة، في ضوء عدم رغبة الولايات المتحدة في إظهار القيادة، وعدم قدرة القوى الرئيسية الأخرى على تعبئة الفراغ.
أراد رذرفورد، الكيميائي والفيزيائي النووي، إجراء تجارب كبيرة في مختبراته في بريطانيا. وكان قد فاز بجائزة نوبل للسلام في الكيمياء في العام 1908، وأحب أن يستمر في التقدم ليصبح أحد الأساطير في حقله. لكنه غالباً ما لم يتوافر على الأموال، ببساطة. وتقول إحدى الروايات إنه جمع فريقه وقال: “أيها السادة، لقد نفدت الأموال من بين أيدينا. حان الوقت للبدء في التفكير”.
وقد أصبحت هذه الكلمات التي نسبت إلى رذرفورد مشهورة على الصعيد العالمي -وأيضاً في ملكوت السياسة. ويصعب أن تنطبق هذه العبارة على شيء أكثر مما تنطبق على رحلة نائب رئيس الولايات المتحدة جو بايدن الأخيرة لألمانيا. وكان بايدن قد عقد يوم الجمعة قبل الماضية اجتماعا مهرجانياً مع المستشارة أنجيلا ميركل. وألقى يوم السبت كلمة أمام المؤتمر الأمني السنوي في ميونيخ.
والفكرة واضحة: ما يزال بايدن يتحدث بسلاسة وعلى الملأ عن التعاون بين ضفتي الأطلسي. لكن رسالته الرئيسية، خلف الأبواب الموصدة، هي أن أميركا وحلفاءها في حاجة للتوصل إلى طريقة جديدة في تقسيم المسؤوليات في هذا العالم المتسم بانعدام اليقين.
الأمة المرهقة
في العام 1988، وصفت وزيرة الخارجية الأميركية في حينه، مادلين أولبرايت، أميركا بأنها أمة “لا يمكن الاستغناء عنها”. أما الآن، وبعد 15 عاماً من ذلك التاريخ، فإنها أصبحت أمة مرهقة بشكل رئيسي، قوة عالمية قيد التداعي، والتي تحول ألقها نحو الجبهة المحلية بدلاً من أفغانستان أو الشرق الأوسط.
ينبغي أن لا يبدو هذا الأمر مفاجئاً بالنسبة لنا. فمنذ نهاية الحرب الباردة، أمضى الجنود الأميركيون ضعف عدد الأشهر التي أمضوها في أي حرب قياساً مع العقود السابقة. وقد ضخ البلد كمية ضخمة من الأموال في قواته العسكرية. وفي الحقيقة، أنفقت أميركا في العام 2011 على الدفاع أكثر مما أنفقته 19 قوة عسكرية مجتمعة. وقد أسهم ذلك، بالطبع، في بناء جبلها القياسي البالغ 16 تريليون دولار(11.8 تريليون يورو) من الدين العام.
عندما تحدث بايدن، نقل رسالة من رئيسه الرئيس الأميركي باراك أوباما. وكانت فحوى الرسالة تقول: “كفى”. وبعد كل شيء، عندما ألقى أوباما خطاب تنصيبه للرئاسة في المرة الثانية مؤخراً، فإنه تجنب أي إشارة إلى الخطاب الذي كان قد ألقاه الرئيس الأميركي الراحل جون أف كنيدي في حفل تنصيبه في العام 1961، والذي قال فيه إن أميركا “سوف تدفع أي ثمن وتنهض بأي عبء… بغية ضمان استدامة ونجاح الحرية” حول العالم. لكن أوباما قال بدلاً من ذلك في خطابه: “إن عقداً من الحرب ينتهي الآن”.
ولم يركز أوباما، الفائز بجائزة نوبل للسلام، على خلق عالم أفضل في خطابه. لكنه تحدث بدلاً من ذلك عن أميركا أفضل، واحدة تتوافر على المزيد من الفرص للمهاجرين والمزيد من الحقوق للأقليات العرقية وعدم مساواة اجتماعية أقل. واليوم، أصبحت أميركا منقسمة بشكل عميق، لكن كل الأطراف يوافقون على نقطة واحدة: أن رفاه أميركا أكثر أهمية من رفاه العالم.
كانت لدى سلف أوباما، الرئيس جورج دبليو بوش، رؤى مخلصة بعيدة المرامي بالنسبة لسياسة للسياسة الأميركية الخارجية، لكن ما يبقى منها في حقبة أوباما هو ما يعرف باسم “مبدأ ايزنهاور” كما يعيد اكتشافه المعلقون الأميركيون. وكجنرال عسكري، كان دوايت ايزنهاور بطل الحرب العالمية الثانية. لكن أراد كرئيس لأميركا من العام 1953 وحتى العام 1961 تجنب إراقة الدماء مهما كلف الثمن -أو على الأقل هدر الدم الأميركي. وطبقاً لكاتبة سيرة حياته، جين أدوارد سميث، لم تتكبد أميركا منذ نهاية الحرب الكورية وحتى نهاية رئاسته أي وفاة في قتال.
سياسة خارجية بنتائج قليلة محسوسة
الآن، سمى أوباما تشاك هاغل وزيراً جديداً للدفاع. وأعطى هاغل، السيناتور الجمهوري السابق ومخضرم حرب فيتنام الذي تقلد وساماً، كتاب السيرة الذاتية لأيزنهاور كهدية، وهو ويريد الإبقاء على الجنود الأميركيين خارج طريق الضرر. وفي الحقيقة، يشترك هاغل مع أوباما في رؤيته الكونية التي تدعو إلى “القيادة من الخلف” -سواء في ليبيا، أو الأكثر حداثة، في مالي حيث تشعر الولايات المتحدة بالسعادة لأن فرنسا هي التي تتولى القيادة.
ومع ذلك، لم يعد هذا التقسيم الجديد للواجبات، لا يشكل نهاية العالم بأكثر مما هو خفض الإنفاق العسكري الأميركي. فهو أسهل على التنفيذ مما يسمح به الضباط العسكريون المتذمرون. وستكون الدراما الحقيقية إذا قررت أميركا التراجع بشكل كامل إلى داخل حدودها الخاصة.
والحقيقة هي أنه عندما يتعلق الأمر بمكانة أميركا في العالم، فقد أرسى فريق أوباما- بايدن الكثير من الأرضية. لكن سياساتهما الخارجية أفرزت بالكاد أي محصلات فعلية. وفي الحقيقة، يعتقد حتى معهد بروكينغز -المؤسسة الفكرية المحترمة التي تتخذ من واشنطن مقراً لها- بأن على أوباما تحقيق العديد من النجاحات على صعيد السياسة الخارجية.
وفي البلدان التي تتخذ موقفاً عدائياً من أميركا، مثل باكستان، نجد أن أوباما لا يحظى بشعبية كما كان سلفه بوش -ربما نتيجة استخدام المزيد من الطائرات من دون طيار أكثر من استخدامه الدبلوماسية. ويبدو من المرجح أكثر من أي وقت مضى بأن إيران ستطور أسلحة نووية وأن المعركة ضد تغير المناخ في جمود وأن الإسرائيليين والفلسطينيين عادوا ثانية وراء إلى الإمساك بحناجر بعضهم بعضا وأن العلاقات الصينية الغربية ما تزال تقف على أرضية مهزوزة.
هل يتحول العالم إلى النكوص؟
ربما تعتقد بأن الوقت قد حان لكي يقفز أوباما عائداً إلى ظهر السرج قبل أن يتم تقزيمه إلى وضع البطة العرجاء. لكن، وبغض النظر عن عدد الابتسامات العمياء الصفراء التي يوزعها المتغطرس بايدن في برلين وميونيخ، فإن توقع ذلك ربما يكون كثيراً جداً. وبالطبع، يعطي هذا مجالاً لإثارة السؤال: ما هو البلد الذي يستطيع الحلول في مكان الولايات المتحدة؟ الصين تبدي الذعر من احتمال أن يكون اقتصادها بصدد خسران الزخم، وروسيا تراجعت إلى منزلة الدكتاتورية البترولية، فيما تتعثر خطى البرازيل والهند. وفي الوقت ذاته، نرى أن المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي تعاني من أزمة هوية حول ما عساها فعله.
كما اقترح العالم السياسي أيان بريمر في كتابه الحديث “كل دولة لنفسها” نجد أنفسنا الآن في حقبة سمتها “فراغ القيادة” كونياً. ومن الممكن أن يكون هذا هو وقت التقدم إلى الأمام، وخاصة بالنسبة للأوروبيين الذين قد يصبحون في نهاية المطاف الشرطي الكوني الجديد.
تقول صحيفة الواشنطن بوست إنه لا ينبغي الاستهزاء بهذه الفكرة. لكنها تبدو فكرة مسلية أكثر من كونها احتمالية. وإذا ما استثنينا بريطانيا، فقد خفضت الأمم الأوروبية موازناتها الدفاعية بما معدله
15 % منذ نهاية الحرب الباردة. والأسوأ من ذلك، كما بينت أزمة اليورو واللغط الذي ثار أخيراً حول دور بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، أنه ما يزال على الوحدة الدبلوماسية في أوروبا أن تنتقل من الورق إلى الحقيقة والواقع.
في الحقيقة، وبدلاً من تحقيق تقدم، يبدو العالم وأنه سيتحرك في الاتجاه المعاكس على الأرجح. لا تتمتع أوروبا بموقف يمكنها من الاضطلاع بدور القيادة القطعية، كما أن الولايات المتحدة لم تعد ترغب في ذلك.
(دير شبيغل) ترجمة: عبد الرحمن الحسيني الغد الاردنية
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: Europe Incapable, America Unwilling