حرب غزة الثالثة أضافت فصلا جديدا إلى كتاب الدهشة العربية، حفل بالعناوين المثيرة والمفاجآت التي لم تخطر على البال.
(1)
أداء المقاومة الفلسطينية احدى أبرز تلك المفاجآت. والدهشة لم يكن مصدرها فقط ثبات المقاومة وقدرتها على الإبداع وإفشال مخططات العدو الصهيوني وإرباكه. وإنما أصابتنا الدهشة أيضا إزاء ردود الأفعال في بعض الأوساط العربية، التي أصرت على أن تتجاهل الإنجاز، وظلت تتباكى على الثمن الذي دفع، ليس حزنا على الضحايا، ولكن ضنَّا على المقاومة بشهادة الاعجاب والتقدير. وهذا الذي سكت عليه البعض عندنا سجلته عدة كتابات إسرائيلية في سياق لومها وتنديدها بسياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وفريقه. إليك نماذج من تلك الكتابات:
ـ أقر وزير الحرب الصهيوني السابق شاؤول موفاز في حوار بثته القناة العاشرة في 1/8 بفشل الحرب على غزة ونجاح حركة «حماس» في جر إسرائيل إلى حرب استنزاف. وقال ان عملية «الجرف الصامد» لم تحقق شيئا من أهدافها، فضلا عن ان المستوطنين فقدوا الشعور بالأمن على نحو خطير.
ـ خبير الأمن القومي اوري بار يوسف قال لصحيفة «يديعوت أحرونوت» في 12/8، ان عملية «الجرف الصامد» أسفرت عن انهيار القدرة العسكرية لجيش إسرائيل، مضيفا أن إسرائيل لم تفشل فقط في ترميم قوة الردع في مواجهة «حماس»، وانما انهارت قوتها العسكرية بشكل أكبر مما كانت عليه قبل الحرب. وأوضح انه يجب على إسرائيل أن تعترف بأن قدرتها العسكرية غير قادرة على حسم المواجهة مع «حماس»، على الرغم من أن تفوق جيشها لا شك فيه، مشيرا إلى أن جذور مشكلة الردع الصهيوني في مواجهة «حماس» تكمن في قدرة الحركة على استخدام وسائل بدائية وتوظيفها في تحدي إسرائيل.
ـ ميخائيل بار زوهار كتب في صحيفة «يديعوت أحرونوت» قائلا إن الحملة العسكرية بينت أن «الجيش الذكي» أصبح فاشلا يفتقد الإبداع. دلل على ذلك بقوله ان الجيش بات يعتمد فقط على الوسائل التكنولوجية مثل «القبة الحديدية» والاغتيالات التي تتم من خلال الوسائل الإلكترونية. كما انه انتقد فشل سلاح الجو في تدمير ترسانة «حماس» الصاروخية. وكانت النتيجة ان المقاومة الفلسطينية استطاعت ان تقاتل إسرائيل لمدة شهر كامل، وتمكنت من مواجهة أقوى جيش في الشرط الأوسط، كما انها نجحت في إرسال ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ.
ـ رأى المحلل السياسي والعسكري رونين بيرغمان ان المقاومة الفلسطينية حققت انتصارا في مواجهة العملية العسكرية الإسرائيلية. وأشار إلى أن عدد القتلى في كل جانب ليس المعيار الأهم لتحديد من هو المنتصر، فالمعيار الأهم في هذه النقطة هو تحقيق الأهداف التي توخاها كل طرف قبل بدء المعركة. من هذه الزاوية فإن «حماس» تبدو هي المنتصرة لأنها حافظت على قدرتها على إطلاق الصواريخ ـ القذائف على معظم انحاء إسرائيل، وعلى استخدام الانفاق بنجاح للوصول إلى داخل الأراضي الإسرائيلية ومهاجمة بعض الأهداف العسكرية.
(2)
تلازمنا الدهشة ونحن نتابع التسريبات الإسرائيلية بخصوص موقف مصر من الحرب. لقد كنت أحد الذين انتقدوا تجاهل السلطات المصرية للمقاومة في المشاورات التي سبقت إعلان مبادرتها بحيث كان الطريق بين القاهرة وتل أبيب مفتوحا لكنه ظل مغلقا مع غزة. لكنني أرجعت ذلك إلى القطيعة الحاصلة بين النظام القائم في مصر وبين حركة «حماس»، لأسباب مفهومة راجعة إلى علاقة الحركة بـ«الإخوان» بالدرجة الأولى. وظللت اعتبر ذلك خطأ سياسيا من الصعب تبريره، وما خطر على بالى وما توقعت ابدا، ان تفهم الحسابات الخاطئة باعتبارها تواطؤا بين مصر وإسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية. لكن ذلك واضح في سيل التصريحات والتعليقات الإسرائيلية التي ما برحت تصر على التحالف بين مصر وإسرائيل في مواجهة «حماس» والمقاومة الفلسطينية. بل ذهبت إلى أن إسرائيل في تدميرها لغزة أشاعت انها اعتمدت على «شرعية عربية» ضمت شركاء غير مصر مثل السعودية والإمارات والأردن وهو ما اعتبره البعض «حلفا جديدا» ظهر في المنطقة. وذكرت بعض الكتابات ان التشاور والتنسيق بين مصر وإسرائيل لم يكن مقصورا على مبادرة وقف الحرب، ولكنه ظل قائما أثناء الحرب ذاتها. في إشارة خبيثة إلى أن القاهرة كانت تساعد إسرائيل بالمعلومات التي تمكنها من ضرب الأهداف الفلسطينية وإنجاح مهمتها. وكانت تلك هي المعلومة الوحيدة التي نفتها مصر رسميا.
لقد ذكرت صحيفة «هآرتس» أن إسرائيل حين أربكتها مفاجآت «حماس» و«الجهاد» أثناء الحرب، سارعت إلى مخاطبة الأجهزة الأمنية في الدول العربية «الصديقة» للتعاون معها وإمدادها بالمعلومات التي تساعدها في مهمتها. وقد أكمل القصة موقع «وطني» الفلسطيني الذي ذكر انه في هذا السياق وصل إلى غزة وفد خليجي تابع للهلال الأحمر بحجة إقامة مستشفى ميداني. وضم الوفد 50 شخصا قيل إنهم أطباء. إلا ان الجهاز الأمني في القطاع تشكك في أمرهم وأخضعهم للمراقبة. حيث اكتشف أن من بين «الأطباء» بعض العناصر الاستخبارية التي حاولت التعرف الى مواقع كتائب القسام ومنصات إطلاق الصواريخ. وحين أخضع هؤلاء للتحقيق، فإن السلطات في القطاع فوجئت بسفر المجموعة كلها من دون سابق إنذار يوم الأحد 10/8، بعد أن تركت المهمات التي جلبتها معها لإقامة المستشفى الميداني.
التسريبات طالت الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي وصفته “هآرتس” بأنه «بطل إسرائيل الجديد» وتحدثت عن علاقته الوثيقة بنتنياهو. وكانت صحيفة «جيروساليم بوست» قد اعتبرت الرئيس السيسي شخصية العام تقديراً لشخصه وللدور الكبير الذي قام به في مصر. ومن المؤسف انه في حين تسكت مصر على تلك التسريبات التي تفتقد البراءة، فإن إسرائيل تمعن في تثبيتها مستخدمة في ذلك بعض الكتابات والتعليقات التلفزيونية المريبة التي تصدر في مصر معبرة عن موالاة إسرائيل وكراهية الفلسطينيين. ذلك كله ينبغي أن يدهشنا.
(3)
المفاوضات التي ترعاها مصر الآن بين الفلسطينيين والإسرائيليين تستدعي دهشة من نوع آخر، فمنذ أكثر من أسبوعين والجدل مستمر حول وقف الأعمال العدائية وفك الحصار وترتيب الاعمار والإغاثة وتحويل الأموال إلى غزة وحرية الصيد في المياه الإقليمية، وغير ذلك من العناوين التي تصب في مجرى استمرار التعايش والتساكن بين القاتل والقتيل. كأن المفاوضين يبحثون في كيفية استمرار الاحتلال بغير منغصات، من دون أي إشارة إلى الاحتلال الذي هو جوهر المشكلة وأصل الداء.
من يصدق أن هذا الكلام يجري التفاوض حوله بعد مضي أكثر من عشرين عاما من اتفاقية أوسلو (التي وقعت عام 1993). وهي التي اتفق فيها على انسحاب إسرائيل من الضفة خلال خمس سنوات والبدء في مفاوضات الحل النهائي بعد ثلاث سنوات؟ وهو ما يعني أننا في عام 2014 يفترض ان نكون قد فرغنا من مناقشة موضوعات القدس واللاجئين والمستوطنات تمهيدا لإقامة الدولة الفلسطينية، إلى غير ذلك من العناوين التي لم يعد أحد يأتي على ذكر شيء منها، فضلا عن ان حقائقها تغيرت تماما خلال العشرين عاما. فقد مُحيت القدس التي تحدثت عنها «أوسلو»، وصرنا إزاء مدينة جديدة تماما تم تهويدها ولم يبق من معالمها سوى المسجد الأقصى وقبة الصخرة وبعض المزارات السياحية، واللاجئون سقطوا من الذاكرة، والمستوطنات تضاعفت عدة مرات بحيث لم يعد ملفها قابلا للمناقشة.
الآن نكتشف ان ما تحقق من أسلو أمران هما: اعتراف «منظمة التحرير» بدولة إسرائيل وإضفاء الشرعية على هيمنتها على 78 في المئة من أرض فلسطين، أو كل فلسطين، ما عدا الضفة والقطاع. ثم التنسيق الأمني مع إسرائيل الذي وصفته الاتفاقية بأنه «تعاون» بين شرطة السلطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي. فضمنت إسرائيل بذلك تثبيت السيطرة على الأرض وإحكام مراقبة البشر، ففازت بكل شيء في حين أكل الفلسطينيون الهواء!
(4)
أم المدهشات تتمثل في تقاعس السلطة الفلسطينية عن الانضمام إلى معاهدة روما بما يسمح لها باللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين على سجل جرائمهم الحافل. إذ ليس معقولا وليس مبررا ان تمارس إسرائيل كل تلك الجرائم والفظائع ويكون بمقدور الفلسطينيين محاكمتهم وفضحهم أمام العالم، ثم نكتشف ان المتردد والمتقاعس هو رئاسة السلطة الفلسطينية ذاتها.
في الذاكرة الفلسطينية موقف مخز يتعذر نسيانه. حين شكلت الأمم المتحدة لجنة دولية برئاسة القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون للتحقيق في الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في حربها ضد غزة مع نهاية العام 2008. ودانت اللجنة إسرائيل في تقريرها الذي أقره مجلس حقوق الإنسان في جينيف وأيده أغلب أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم فوجئ الجميع بأن السلطة الفلسطينية هي التي سحبته وطلبت تأجيل النظر فيه!
ثمة إجماع بين النخبة الفلسطينية على ضرورة الانضمام إلى معاهدة روما، لفتح الطريق أمام محاكمة قادة إسرائيل على جرائمهم. ووحدها رئاسة السلطة هي التي تسوف وتؤجل، حتى ادعت ذات مرة أن «حماس» هي التي طلبت التأجيل حتى لا يحاكم قياداتها أمام المحكمة. وهو ما نفاه الأستاذ راجي الصوراني مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة. وقال لي في اتصال هاتفي إن حماس رحبت بالانضمام إلى المعاهدة وعلى استعداد للمثول أمام المحكمة الدولية إذا اقتضى الأمر ذلك. وأضاف أن السيدة فاتو بن سودة المدعي العام بالمحكمة الدولية أبلغته بأن المحكمة تستطيع أن تباشر مهمتها فور تقدم السيد محمود عباس رئيس السلطة بمذكرة من نصف صفحة تطلب التوقيع على المعاهدة والمصادقة على المحكمة الدولية. وفي رأيه أن أبا مازن يتعرض لضغوط تمنعه من الإقدام على تلك الخطوة، مصدرها الأساسي إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا.
ويعلق الصوراني على التقاعس الحاصل بأن شرعية السلطة تكمن في قدرتها على الدفاع عن آلام الشعب الفلسطيني، أما حين تعجز عن القيام بتلك المهمة أو تمتنع منها فإن ذلك يجرح شرعيتها ويفقدها مصداقيتها أمام جماهيرها. وليس هناك ما يقال في هذه النقطة أكثر من ذلك.
عن الشروق المصرية