غداة الكشف عن ملابسات الجريمة البشعة لخطف وحرق الصبي محمد أبو خضير حيّا اندلعت الإحتجاجات الساخنة والإشتباكات مع الشرطة الإسرائيلية داخل أراضي 48 وأستمرت خمسة أيام وهي مرشحة للتجدد وربما بقوة أكبر في حال ارتكب المزيد من الجرائم بحق المدنيين في غزة.
هذه الهبة الشبابية التي فاجأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والقيادات الفلسطينية في الداخل بقوتها وحجمها بدأت في منطقة المثلث وأنتشرت كالنار في الهشيم في صيف فلسطين الساخن نحو الجليل والنقب فسادت أجواء مشابهة تذكّر بهبة القدس والأقصى.
في هذه المظاهرات أغلق الشباب مداخل البلدات ومفارق رئيسية بالحجارة والإطارات المطاطية المشتعلة وتجددت كل مساء بإلقاء الحجارة على الشرطة التي أستهدفتهم بالقنابل الغازية والصوتية.
في هذه الهبة أيضا تقدم المظاهرات ملثمون بعضهم طلاب وبعضهم عمال لكنهم بمعظمهم ليسوا ناشطين أو معروفين كما يؤكد الصحافي وائل عواد من مدينة الناصرة الذي يعنى بتغطية التظاهرات الشبابية.
ويوضح عواد أنه استنتج من الاحتكاك مع المحتجين أنهم غير حزبيين ولا يخضعون لتوجيهات من أحد وبلا بوصلة سياسية، يحتجون على جريمة خطف وقتل بشعة علاوة على كونهم مدفوعين بحمية الشباب للدفاع عن بلداتهم أمام اعتداءات المستوطنين وتهديداتهم بإقتحامها.
ويقول سامي (21 عاما) من مدينة طمرة أنه يشارك في المظاهرات لـ «قرفه» من كثرة عنصريتهم ولغضبه من خطف وقتل الفتى المقدسي وحرقه حيا.
لكن الحديث مع زميله محمود (23 عاما) يكشف أيضا عن وجود حالة إحباط خلف موجة الغضب مردها تعمق الفقر وتفاقم أزمة السكن التي حولت مدينته الى «علبة كبريت» نتيجة عدم توسيع مسطحات البناء وإرتفاع سعر قسائم أرض البناء بشكل جنوني.
ويتواصل الجدل والتساؤلات حول طبيعة الهبة الشبابية الجديدة وهل هي نذر إنتفاضة أم مجرد هبة عاطفية، هبت وخبت بسرعة إحتراق الهشيم؟
المشترك الأبرز بين الهبة التي استمرت نحو أسبوعين عام 2000 وبين الراهنة يكمن في إندلاعهما على خلفية جرائم إسرائيلية بشعة واستبدل محمد أبو خضير هذه المرة محمد الدرة.
والفارق بين الهبتين أن إسرائيل أيضا أستخلصت بعض الدروس ففرقت المظاهرات بقوات كبيرة وبفظاظة أكبر لكنها تحاشت إستخدام الرصاص المطاطي وإمتنعت عن قتل متظاهرين أو إصابتهم بجراح بالغة وأكتفت بالهراوات وخراطيم الماء وإعتقال 140 من المتظاهرين.
ويرى محرر صحيفة «فصل المقال» حسن عبد الحليم أن الهبة تنذر بدنو إنفجار برميل بارود في الداخل نتيجة تفاقم مظاهر العنصرية والكراهية وجرائم «تدفيع الثمن» والتحريض الرسمي والشعبي على المواطنين العرب. إضافة لإنسداد الأفق السياسي ومواصلة الإحتلال في جرائمه في الضفة ومحاصرته غزة، معتبرا أن قتل أبو خضير لم يكن سوى عود ثقاب. في المقابل يقلل أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا البروفيسور أسعد غانم من إمتدادها حيث وصف الهبة بـ «فشة خلق».
ويرى أن الإحتجاجات تنم عن رد فعل إنفعالي لدى فئات عمرية شبابية ويقلل من جدواها لكونها عشوائية غير مؤطرة وليست مسيسة وتعتريها اعتداءات على الأملاك العامة أحيانا. داعيا القيادات السياسية لاستثمار الحراك الشبابي لرافعة وعمل.
وترى أحزاب عربية مثل «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» و»الحركة الإسلامية الجنوبية» أن الإحتجاجات على جرائم الإحتلال والمستوطنين حق وواجب لكنها تبدي تحفظها من كسر قواعد اللعبة مع إسرائيل بإغلاق الشوارع والمفارق العامة يوميا وتدمير ممتلكات عامة والإعتداء على مارة يهود.
لكن فعاليات فلسطينية أخرى مثل «التجمع الوطني الديمقراطي «و»الحركة الإسلامية الشمالية» لا ترى في كل ما حصل شغبا غير شرعي بل إحتجاجا مشروعا ومطلبا يكاد لا يرتقي لمستوى جرائم الإحتلال ومظاهر التحريض والعنصرية في إسرائيل على كل ما هو عربي.
وتعتبر عضو الكنيست عن «التجمع الوطني الديمقراطي» حنين زعبي أن مظاهر القتل والتحريض والترهيب تؤجج الغضب لدى فلسطينيي الداخل خاصة الشباب.
وتبرر بخلاف سياسيين من أحزاب عربية أخرى، تأييدها للمواجهات الساخنة مع قوات الأمن الإسرائيلية بالقول، إن الإحتجاج على القمع لن يكون ناجعا إذا لم يخرج المقموعون عن طورهم وإسترخائهم بوسائل الإحتجاج.
وتتابع «وظيفة الإحتجاج ليست التعبير عن الذات بل الضغط على القامع وإيلامه وإشغاله وإغلاق مؤسساته وشوارعه من خلال إستنفار الرأي العام، وتعبئة الشباب وترسيخ وتوسيع الخطاب والمواقف الوطنية وتعميق القناعة بالحق والواجب بالنضال وتعزيز الجاهزية له». وتنتقد زعبي أوساطا فلسطينية في الداخل تدعو لضبط النفس والبحث عن تفاهمات مع السلطة الإسرائيلية وتسخر من محاولات التوفيق بين إمكانية نضال فلسطينيي الداخل وبين رضا المؤسسة الحاكمة عنهم مؤكدة أن ذلك وهم خطير يتناقض مع بديهية سياسية هي أن النضال يعني اضطرار القامع على دفع ثمن. وتتابع»تتصرف الشعوب وعدا ذلك يعني العبودية التي تجمع بين القمع والإذلال».
ويعتبر باحثون ومثقفون أمثال د. رائف زريق الذي يؤمن بأن الصراع يتجه حتما للعودة للمربع الأول ليشمل فلسطينيي الداخل مستقبلا، أنه من المبكر الحكم على طبيعة ودوافع الهبة الراهنة وعمق محركاتها.
بين هذا التقدير وذاك التقييم للهبة الشبابية وفي ظل الأجواء المشبعة بالتوتر والإحباط لا سيما بعد إنهيار المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، أدركت إسرائيل أن إستشهاد أحد المتظاهرين في الداخل الآن من شأنه أن يشعل حريقا كبيرا داخلها يشغلها وينال من هيبتها ومكانتها ويحوّل فلسطينيي الداخل (17٪) لعدو يقيم في حضنها وبطنها.
لذا ناشد ساستها، قادة فلسطينيي الداخل للتدخل ووقف أعمال الإحتجاج الساخنة ودفعت بوزرائها وقادة شرطتها ومخابراتها للضغط على القيادات العربية ومحاولة ابتزاز رؤساء السلطات المحلية بمعاقبة من لا يتخذ موقفا سلبيا من الإحتجاجات.
ودعا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو منذ اليوم الأول قادة فلسطينيي الداخل للتدخل من أجل وقف المظاهرات والمواجهات مع الشرطة لليوم الثالث على خلفية خطف وقتل الفتى محمد أبو خضير وحتى الآن تحتجز اسرائيل ستين معتقلا في الداخل.
وفي تهديد مبطن زعم نتنياهو أنه من غير المعقول أن يحظى مواطنون بـ «مخصصات التأمين الوطني» من جهة وأن يخرجوا لسد شوارع والإعتداء على مواطنين يهود ورجال شرطة».
لكن يوفال ديسكين الرئيس السابق للمخابرات العامة «الشاباك» يرى أن الحكومة الإسرائيلية تسعى لإقناع الإسرائيليين والزعم بأنه لا يوجد شريك فلسطيني لافتا لمضيها في تجاهل إحتياجات وحقوق فلسطينيي الداخل محذرا من أن الأجواء ما زالت مشبعة بالوقود.
فقدان السيطرة
ويقول ديسكين في صفحته على الفيسبوك إن «ما يجري اليوم معرض للكثير من التدهور على خلفية قتل الفتى محمد أبو خضير والحرب على غزة حتى لو هدأت الأوضاع مؤقتا» موضحا أن تدهور الحالة الأمنية هو في الدرجة الأولى نتيجة الوهم بأن جمود الحكومة من شأنه أن يجمّد الأوضاع ويبقيها هادئة.
ويحمل على سياسات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو حيال الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر، مواصلة الاستيطان، المضي في ترهيب الإسرائيليين من كل ما يدور حولهم في الشرق الأوسط وفرض حقائق على الأرض لا يمكن تغييرها والإستمرار عدم معالجة المشاكل الملحة للمجتمع العربي في إسرائيل.
ونشر ديسكين مقاطع شريط فيديو من محاضرة قدمها قبل عام ونصف يحذّر فيه من تفجر موجة عنف على طرفي الخط الأخضر ومن إستمرار التوتر بين الأغلبية الإسرائيلية والأقلية الفلسطينية في إسرائيل وتابع «من شأن الأوضاع أن تتفاقم وتخرج عن السيطرة بسرعة فائقة».
يشار أن منتديات التواصل الاجتماعي كانت أغلقت صفحات لشباب فلسطينيين في الداخل دعوا لتنظيم مظاهرات إحتجاج بينما صفحات نظرائهم الإسرائيليين مشحونة بالكراهية والتحريض والدعوات لقتل العرب.
القدس العربي