قبل ايام كانت العيون شاخصة نحو اليمن بانتظار رد الفعل الحوثي على الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة وتدمير جزء كبير منه. واغرقت وسائل الاعلام العربية فضاءاتها وهواءها وشاشاتها بعشرات المحللين والباحثين الذين تسابقوا في إظهار مواهبهم في التنبؤ بما سيحصل وكأننا أمام جيش من العرافين والعالمين بالغيب، حتى كادت فصول الارهاب الإسرائيلي وحرب الإبادة الصهيونية وشلالات الدم الفلسطيني النازف كل يوم تتحول إلى خبر عادي يومي. لكن رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو الذي كان لا يزال يعيش نشوة التصفيق الغير مسبوق في الكونغرس الأمريكي ، قلب تنبؤاتهم بشن هجومين متتاليين في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت وفي العاصمة الإيرانية طهران، واغتياله لشخصيتين من الوزن الثقيل جدا، القيادي الكبير رقم ٢ في حزب الله فؤاد شكر” السيد محسن” في بيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس أبو العبد إسماعيل هنية في طهران، في تجسيد واضح لاستراتيجية الإرهاب المنظم التي تعتنقه دولة الاحتلال منذ قيامها.
حدث آخر شهدته المنطقة قبل هذه الاغتيالات الإرهابية جندت فيه الحكومات ووسائل الإعلام كل طاقاتها لإظهاره على أنه الحدث الأهم، في محاولة لحرف أنظار العالم عن مجازر دولة الاحتلال المستمرة وأنهار الدماء الفلسطينية الصارخة، وهو صاروخ مجدل شمس الذي قضى بنتيجته اثنا عشر عربيا من الواقعين تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي في الجولان المحتل. لقد استطاعت إسرائيل الإستثمار في هذا الحدث ، وامتلأت الشاشات مجددا بالمحللين السياسيين والعسكريين العرب والإسرائيليين والأجانب من مختلف أصقاع الأرض، وكادت حرب الإبادة و المأساة التي يعيشها أبناء شعبنا في غزة والضفة والقدس تغيب عن بعض الشاشات أو تحتل المرتبة الثانية على أحسن تقدير، في الوقت الذي شهدت فيه هذه الشاشات كثافة غير مسبوقة في استعراض آراء الساسة والمحللين الإسرائيليين، في عملية تطبيع ممنهجة للعقل العربي. فلا تكاد نشرة أخبار أو برنامج سياسي يخلو من استضافة باحث أو خبير أو محلل إسرائيلي إلا فيما ندر.
والأدهى من ذلك أن القائمين على هذه الوسائل الإعلامية يقطعون بث أي برنامج مهما كانت أهميته لعرض كلمة لنتنياهو او الناطق باسم جيش الاحتلال أو لأي مسؤول إسرائيلي. وإن كان البعض وعن حسن نية، يعتقد أن الهدف هو الإطلاع على مواقف وخطوات العدو، إلا أن كثافة ذلك العرض وغزارة التكرار والطريقة التي يتم بها ذلك، تشي بأن الهدف هو جعل التعاطي مع شخصيات دولة الاحتلال أمرا طبيعيا من خلال دمجه في المنظومة الإعلامية العربية، وبالتالي تقبل وجوده في مناحي حياتنا الاجتماعية بشكل عام دون أن يقدم هو بالمقابل أي شيء، في الوقت الذي يغيب فيه ، وعن قصد،اسم منظمة التحرير الفلسطينية عن هذه الشاشات لأيام . فحتى قرار الكنيست الإسرائيلي برفض قيام دولة فلسطينية لأنها بزعمهم تشكل خطرا وجوديا على دولتهم، وقرار إقرار خطة سموتريتش الهادفة بجوهرها إلى ضم الضفة الغربية دون إعلان رسمي بالضم، لم يحظيا لدى هذه الاقنية على أكثر من اهتمام ليوم أو يومين، وكأنها اخبار هامشية، في الوقت الذي لا زال فيه صاروخ مجدل شمس يشكل بالنسبة لهم خبرا استراتيجيا حتى الساعة. صحيح أن دولة الاحتلال استثمرت في هذا الحدث إلى أقصى درجات الاستثمار، وانتقلت بسقف الحرب إلى طبقة أخرى، واغتالت القيادي في حزب الله فؤاد شكر بعد أن شعر نتنياهو في زيارته للولايات المتحدة بتخلصه من الصغط الأمريكي . وسوف تستثمر في أي حدث لتفجير حقدها على كل ما هو فلسطيني وعلى كل من يعاندها، لكن هدفها الأساس يبقى غزة والضفة. فهل نجحت دولة الاحتلال وبتعاون تآمري مع بعض النظام العربي في التأثير في العقل العربي وتطويره لتقبل ما ترتكبه من حرب إبادة ومذابح في غزة والضفة واعتبار ذلك حدثا عاديا يوميا ، ليتحول معه أطفالنا وأهلنا إلى مجرد أرقام توثق أعداد الضحايا يوميا!!
بالطبع لا يمكن التقليل من أهمية وهمجية ما ارتكبته إسرائيل في بيروت وطهران، وما ترتكبه يوميا من اعتداءات تطال لبنان وسوريا ومناطق أخرى من عالمنا العربي ، لاعتقادها بأنها استطاعت من خلال قصفها لميناء الحديدة واغتيالها لقياديين من الصف الأول، استعادة قوة الردع الإسرائيلية وإعادة ثقة المجتمع الصهيوني بقوة جيشه.
لكن لماذا اختار نتنياهو هذا التوقيت بالذات لتوسيع دائرة استهدافاته ودفع المنطقة إلى حافة صدام كبير ، غير آبه بالتحذيرات من حرب شاملة بدت رهن كيفية تعاطي محور الممانعة مع السلوك الجديد للتنين الهائج بنيامين نتنياهو الذي لم يتوانى عن غرز أنيابه في ساحات عدة، ومتفلتا من أي ضوابط رغم علمه أن هذه القوى سوف تعمل على استعادة التوازن الذي تم كسره في الضاحية وطهران.
يبدو أن نتنياهو خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، وفي ظل حالة اللافعل الأمريكية، استغل المرحلة الانتقالية قبيل الانتخابات التي تفرض على الطرفين الأمريكيين المتصارعين على السلطة عدم اغضاب اللوبيات الصهيونية ، واستطاع انتزاع ضوء أخضر أمريكي لإكمال مهمته وانجاز العمليات الأخطر ومراكمة النقاط الثمينة بنظره، ومستفيدا من وضعية البطة العرجاء للرئيس بايدن لتنفيذ أجندته. وعلى الصعيد الداخلي يشعر نتنياهو بالحرية الكاملة في فعل ما يشاء مع غياب الكنيست في اجازة الثلاثة أشهر، إضافة إلى أن ارتفاع منسوب خطر توسع المواجهات وتمددها أفرز وحدة ساحات أمريكية غربية أعلنت عن استعدادها للدفاع عن دولة الإحتلال في حال تعرضها للهجمات.
كما ان المنطقة اليوم تعيش تصاعدا في وتيرة الضربات والضربات المضادة . فدولة الاحتلال التي تقف خلفها الولايات المتحدة الأمريكية ليست مستعدة لامتصاص ضربة لما تسببه لها من خسارة استراتيجية تمس فكرة مشروعها القائم على الردع، وإيران التي تقف خلف حلفائها ليست مستعدة هي الأخرى لامتصاص ضربة ستؤدي إلى تراجع الصورة التي تجسدت بأنها قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها. فالمعادلة دقيقة وحساسة.
لكن رغم كل ما تحمله هذه المرحلة من مخاطر حقيقية وخطيرة، إلا أنها لا يمكن أن تعلو على الهدف الحقيقي لنتنياهو وحكومته الفاشية ، وهو حسم الصراع. فالمعركة المصيرية لدولة الاحتلال تبقى في فلسطين.
وفي عودة إلى الفكرة الأساس، يستمر النظام العربي ووسائل إعلامه في محاولة تدجين عقل المواطن العربي العادي لدمج إسرائيل في مجتمعاتنا من خلال الضخ المبالغ فيه للوجوه الإسرائيلية في الفضاء الإعلامي العربي حتى أصبحنا نعرفهم بالاسم والموقع أكثر من معرفتنا بالشخصيات العربية، مع تعتيم شبه كامل على ممثلي الشرعية الفلسطينية. وقد طغت اخبار تطورات الإقليم لدى بعض الشاشات على نقل معاناة أبناء شعبنا في غزة والضفة وما يتعرض له من حرب ابادة.لكن دروس التاريخ أثبتت اننا لسنا ارقاما يتم يفرزها يوميا بين شهيد وجريح ومفقود، ولا يمكن تهميشنا، وان فلسطين هي أصل الصراع وهي الطريق إلى الأمن والسلام.