عاش الشعب الفلسطيني حياته عبر التاريخ مسالماً، وكان دائماً جزءاً من النظام السياسي للشرق الأوسط، ولم يسجل التاريخ أبداً أن الشعب الفلسطيني قام بالاعتداء على جيرانه، أو باحتلال أرض أحد، أو العدوان على أحد، لكن وحيث كانت تسمى فلسطين قبلة للكثيرين من مشارق الأرض ومغاربها، يأتي بعضهم كحجيج، نظراً لكون فلسطين أرض الرسالات وملتقى السماء بالأرض، وفيها واحدة من أقدس المدن، وهكذا فإن إقامة العديد من مواطني الشرق الأوسط من العراق وحتى المغرب، في فلسطين، كذلك تعايش أبناء ديانات التوحيد فيها، جعل منها ومن أهلها أرض سلام، وأهل تعايش.
لم يكن الشعب الفلسطيني يوماً عدواً لأحد، ولا لليهود، الذين هم أيضاً كان بعضهم جزءاً من النسيج الاجتماعي، كما هو حالهم في العديد من البلاد، ومنها البلاد العربية، حيث كانوا يعيشون كمواطنين لا فرق بينهم وبين الأغلبية المسلمة.
هكذا كان حال الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، مع اليهود، وهكذا يمكن أن تكون دائماً، لكن اغتصاب فلسطين أولاً، ثم احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين ثانياً، ثم مواصلة التنكر لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على أرضه المحتلة، وهي أقل من تلك التي قررتها له الأمم المتحدة في قرار التقسيم، هو أصل المشكلة، وحتى هذا لم يدفع الشعب الفلسطيني لتغيير موقفه تجاه اليهود، فهو أصر دائماً على أن مشكلته مع الصهيونية التي أقامت دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وبعد ارتكابها لمذابح عديدة وإقدامها على طرد نحو نصف الشعب الفلسطيني من موطنه ومن دياره.
لكن إصرار المتطرفين الإسرائيليين على تحويل دولتهم من دولة “مدنية – ديمقراطية” إلى دولة دينية يهودية، هو ما يصبغ الصراع بالطابع الديني خاصة من جهتهم، ولأن اليمين والتطرف يحكمان إسرائيل منذ عقود، فقد تابعت حكومات اليمين المتطرف الإسرائيلية تحويل دولتها إلى دولة يهودية، بل وطالبت الجانب الفلسطيني، بالاعتراف بها، أي بإسرائيل بهذه الصفة، وهي صفة لا تحمل في طياتها سوى مستقبل قاتم لإسرائيل نفسها.
والحقيقة أن “حالة من التدين” قد اجتاحت إسرائيل، خاصة أن دوافع حكومات اليمين الاحتلالية لجهة الاحتفاظ بالأرض الفلسطينية المحتلة، قد شجعها على اعتماد هذه السياسة، وذلك للظفر بدعم المستوطنين، الذي هم إضافة إلى كونهم متزمتين دينياً، هم يؤمنون بالعنف، وذلك لأنهم مغتصبون سارقون لأرض وثروات الغير، ولأنهم أيضاً خارجون على القانون الدولي، الذي ينص بكل بساطة ووضوح وصراحة على أن أرض الضفة الغربية أرض فلسطينية محتلة، ولا يجوز لإسرائيل أن تغير معالمها ولا وضعها القانوني، وبالطبع لا يحق لها ولا يجوز أن تسمح بالاستيطان فيها، وهي غير مسموح لها بالقانون الدولي، وذلك كأبعد تقدير، سوى أن تقيم فيها المواقع العسكرية بحجة الحفاظ على الأمن ومنع اندلاع الحروب، التي لم تعد ممكنة الوقوع أصلاً بعد توقيع اتفاقيتَي السلام مع الأردن ومصر.
في الدين اليهودي هناك الكثير من الأعياد، وهذا شيء يخص معتنقي تلك الديانة، وأمر يخص دولة إسرائيل، كون غالبية سكانها يدينون بالدين اليهودي، لكن لأن اليهود المتزمتين ومنهم المستوطنون الذين هم خارجون على القانون الدولي قبل كل شيء، لا يحترمون لا حياة ولا حقوق الآخرين، فإنهم في أعيادهم لا يترددون عن انتهاك حقوق الغير تلك بكل بساطة وخفة، هذا رغم أنه يفترض في الإنسان المؤمن أن يتحلى بالتسامح والمحبة، خاصة في مناسباته الدينية التي يفترض فيها أن تحثه على فعل الخير تجاه الآخرين.
وأقبح ما يرتكبه المتطرفون اليهود، هو أن يستخفوا بحقوق الآخرين ومشاعرهم الدينية، تجاه أماكن عبادتهم.
فالمتزمتون المستوطنون، ومعهم جيشهم وحكومتهم المتطرفة، يواصلون منذ سنوات طويلة محاولة الاستيلاء على المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي، كذلك يعتبرون قبر يوسف في نابلس رمزاً لهم، مع أن الشعب الفلسطيني هو من واصل الإقامة على أرض فلسطين منذ أكثر من خمسة آلاف عام.
وهكذا لا تمر الأعياد اليهودية على فلسطين وشعبها بأي خير، فهي تترافق مع إجراءات احتلالية استثنائية، تشمل إغلاق ما تسميه إسرائيل “المناطق”، أي أرض دولة فلسطين بالكامل، لتضع الشعب الفلسطيني بأكمله في سجن جماعي أو في إقامة جبرية طوال أيام تلك الأعياد، وقد بدأ الإغلاق الشامل من منتصف ليل الجمعة الماضي حتى ليل الأحد الماضي، وذلك بمناسبة رأس السنة العبرية، رغم ذلك فإن بيان الجيش أوضح أن رفع الإغلاق سيكون مرتبطاً بتقييم الوضع الأمني وتوجيهات المستوى السياسي.
وقد شمل الإغلاق الإسرائيلي السماح للمستوطنين والمتزمتين المتدينين اليهود بالنفخ بأبواقهم في داخل مسجد المسلمين “الأقصى”، وكذلك أداء صلواتهم بالقرب من باب الرحمة بعد اقتحام الأقصى، كذلك فعلوا الأمر ذاته الأحد الماضي في الحرم الإبراهيمي بالخليل، حيث أقاموا الصلاة التلمودية بالقرب من الباب الشرقي للحرم.
كل هذا يحدث في ظل حكومة أخيرة على ما يبدو لنتنياهو، بالنظر إلى مستواها المتطرف جداً، باعتمادها على حزبَي العظمة اليهودية والصهيونية الدينية، اللذين يشكلان خطراً فادحاً على إسرائيل نفسها كدولة مدنية لكل مواطنيها ولكل اليهود، أي بمن فيهم غير المتدينين، وهذا كان السبب في أن توقف مؤخراً المملكة العربية السعودية حواراتها مع الولايات المتحدة حول التطبيع مع إسرائيل، كما توقعنا في مقال سابق، بأن ما سيحول دون التقدم في هذا الملف هو وجود التطرف في حكومة نتنياهو.
هذا مع العلم أن “التطبيع” ليس هو الحل لمعضلة وجود إسرائيل في الشرق الأوسط كدولة منبوذة، بل الحل هو انسحابها من أرض دولة فلسطين، وحسن الجوار مع دول الجوار، وذلك ليس لأن الأقربين أولى بالمعروف، بل لأن إسرائيل جربت أن تتجاوز الشرق الأوسط كله بعلاقات خاصة مع الغرب طول عقود، وهي تجرب تجاوز فلسطين بعقد اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية البعيدة عن حدودها، ولكن ذلك لم يوفر لها الأمن، لا مع شعوب تلك الدول، ولا مع الشعب الفلسطيني، وللتذكير فقط نقول: إن حروب إسرائيل مع دول الجوار العربي بدأت بعد العام 48، والثورة الفلسطينية المسلحة انطلقت بعد حرب حزيران 67، والانتفاضة الأولى اندلعت بعد كامب ديفيد، ثم ها هي بعد “أبراهام” تنطلق ثورة الضفة لكنس الاحتلال.
عن صحيفة الايام