الذي يدقق في معادلة الفلسطينيين بشأن الانتصارات والهزائم منذ أول أيام نكبتهم حتى أول يوم لوقف إطلاق النار المؤقت في غزة، لا يستغرب الاحتفال بالنصر، بل ولا يجوز له منطقيا أن ينتقد هذا الاحتفال، رغم العدد الهائل من الضحايا البشرية، والنسبة الأشد هولا من التدمير، والقضاء على مقومات الحياة العادية.
ذلك أن الفلسطيني الذي لم يحظَ ولو بيوم واحد من توازن القوة مع خصومه، استبدل على مدى ثلاثة أرباع القرن، بمصطلح توازن القوة، توازن الرعب، لهذا فهو ينظر دائما إلى ما يحدث على الجانب الآخر دون أن ينظر كثيرا إلى ما يحدث على جانبه، ووفق هذه المعادلة التي اخترعها الفلسطينيون تحت ضغط قلة الإمكانات قياسا لإمكانيات الخصوم.. فهم منتصرون على الدوام ما داموا على قيد الحياة، وما دام قادتهم يتمكنون من رفع شارة النصر من فوق الركام، ويكون النصر أكثر لمعانا حين تتبناه فضائيات عملاقة، وأجندات تحتاج إليه.
غير أن أزمة لا بد أن تنشأ ليس بين الفلسطينيين أو معهم، وإنما مع المصرف الذي يحول الإنجازات إلى رصيد سياسي، وأصحاب هذا المصرف، لا يقيمون وزنا للبطولة ولا لعدد الضحايا، فهم يقولون وبلغة باردة، البطولة للشعراء، وأعداد الضحايا للإغاثة، أما الرصيد السياسي فيحدده أصحاب المصرف الذين هم على الأغلب أصحاب القرار الدولي الأخير.
ولئن اقتنع العالم كله بمعادلة أصحاب المصرف البائس هذا وأقامت دوله وقواه سياساتهم على أساس هذه المعادلة، فإن الفلسطينيين الذين لا خيارات كثيرة أمامهم، يصرون على معادلتهم الخاصة، ويزدادون إيمانا بها واعتناقا لها، فهذا هو رصيدهم المعنوي، الذي صار أكثر من نهج سياسي وأعمق فقد صار ثقافة.
أما خصمهم الإسرائيلي فيبدو أنه تأثر كثيرا بالفلسطينيين ومعادلتهم، ولكن بصورة مختلفة، فهم يعتبرون كل ما يحققونه ناقصا ما دامت الملايين الفلسطينية لم تزحف صاغرة رافعة الراية البيضاء طالبة من القوة المتفوقة، مجرد الرأفة لا أكثر.
وتحت هذه المعادلة نشأت في إسرائيل سوق شرعية وأخرى سوداء لتسويق النصر، الشرعية هي ادعاءات الحكومة بأنها حققت نصرا حاسما وأنها بصدد استكماله في الجولات المقبلة.
أما السوق السوداء، وهي الأنشط والأكثر كفاءة وفاعلية فهي تلك التي نحت فيها المتنافسون على الأصوات مقاييسهم وخلاصاتهم، ويتركز هؤلاء داخل الحكومة ومن حولها، فمن يرغبون في بقاء رئيس الوزراء وشلته في سدة الحكم، فلديهم معامل تتولى إنتاج النصر وتسويقه، ومن ضمنها بالطبع استطلاعات الرأي والأبحاث والدراسات التي معظمها موجه بصورة أو بأخرى.
ومن يسيل لعابهم مع كل حدث، من أجل الإطاحة برئيس الحكومة والحلول محله، فكل ما تفعله الحكومة هو مجرد هزائم وعلى الناخبين الإسرائيليين أن يضعوا ذلك في عين الاعتبار، وهنا يظهر عنصر التبادلية بين المنطق الفلسطيني والمنطق الإسرائيلي، فحين يتحدث الفلسطينيون عن خسائرهم الهائلة لإثبات أن العدو يفرط في استخدام القوة الغاشمة، يتخذ أنصار الحكومة الإسرائيلية من هذا الحديث برهانا عن أن الحكومة نجحت في حربها.
وحين يتحدث الإسرائيليون من منافسي رئيس الوزراء عن إخفاقات المستوى السياسي والعسكري في الحرب، فإن الفلسطينيين لا يهملون هذا الاعتراف، بل يسوقونه لأنفسهم وللآخرين وفق نظرية «وشهد شاهد من أهلها».
على كل حال، إن هاتين المعادلتين الفلسطينية والإسرائيلية اللتين تتعايشان وتتنافسان منذ بدء الصراع وإلى ما لا نهاية، أصبحتا ضروريتين لاستمرار الصراع، وتغطية نتائجه، ولا أمل بغياب هاتين المعادلتين، سواء هدأت المعارك لفترة طويلة أو جرى إنجاز خلاصات سياسية معينة. فتأييد ما يحدث وانتقاده هما زاد السلطة والمعارضة عند كلا الجانبين وإلى ما لا نهاية.
عن الشرق الاوسط السعودية