يطالب العديد من الحقوقيين الفلسطينيين السلطة الفلسطينية بالإسراع للانضمام لمحكمة الجنايات الدولية من أجل محاكمة قادة اسرائيل في تهمة ارتكاب جرائم حرب خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة التي شنها الجيش الاسرائيلي في الثامن من شهر يوليوتموز 2014 تحت مسمى عملية الجرف الصامد تحت مبرر منع فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة وعلى رأسهم حركة حماس من إطلاق صواريخ فلسطينية من قطاع غزة ضد المدن الإسرائيلية ، و لقد راح ضحية تلك الحرب الاسرائيلية نحو أكثر من ألف شهيدا فلسطينيا مدنيا من ضمنهم 252 امرأة فلسطينية و 471 طفلا فلسطيني وذلك حسب احصائيات المركز الفلسطيني لحقوق الانسان التي تم نشرها بتاريخ الحادي عشر من شهر أبأغسطس 2014 ، وبالإضافة إلي عدد الشهداء الكبير من المدنيين الفلسطينيين ، دمرت ألات الحرب الإسرائيلية بشكل جزئي أو كامل أكثر من 10000 مبنى من ضمنهم وحدات سكنية و مساجد و مستشفيات ومصانع حيوية تعمل في قطاع غزة في عدة مجالات متنوعة.
ويعتقد بعض النشطاء في مجال حقوق الانسان أنه بمجرد انضمام السلطة الفلسطينية لمحكمة الجنايات الدولية فإنه بعد ذلك سيتم فورا محاسبة قادة اسرائيل بشكل حاسم عن أية جرائم حرب تم ارتكابها خلال الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فمن يتفحص بدقة بنود اتفاقية روما ، التي تُعد بوابة لأي دولة تريد الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية بمجرد توقيعها على هذه الاتفاقية ، فسوف يرى بوضوح أن إسرائيل يمكنها بسهولة التهرب من أية تهمة قد توجه ضد قاداتها من قبل السلطة الفلسطينية ، حيث تنص المادة رقم 11 من اتفاقية روما حرفيا على التالي: “إذا أصبحت دولة من الدول طرفاً في هذا النظام الأساسي بعد بدء نفاذه, لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة, ما لم تكن الدولة قد أصدرت إعلاناً بموجب الفقرة 3 من المادة 12 “.
ونستطيع أن ندرك بوضوح من هذا البند المذكور في اتفاقية روما أنه لا تستطيع أي دولة المطالبة بتحقيق في أية جرائم حرب قد حدثت في أراضيها قبل سريان مفعول انضمام تلك الدولة لمحكمة الجنايات الدولية، وبما أن السلطة الفلسطينية لم تنضم لمحكمة الجنايات الدولية قبل حدوث عملية الجرف الصامد ، فإنه بذلك قانونيا لا تستطيع السلطة الفلسطينية أن تحاكم أي قائد أو مسئول اسرائيلي عن أية جرائم حرب حدثت بالسابق قبل تاريخ انضمام السلطة الفلسطينية لمحكمة الجنايات الدولية ، لكن يمكن للسلطة الفلسطينية محاكمة قادة اسرائيل فقط عن الوقائع التي حدثت بعد تاريخ انضمامها لمحكمة الجنايات الدولية ، لذلك فمن يعتقد أن القادة الإسرائيليين قد يتم محاكمتهم حول غزة فإن هذا الاعتقاد بعيد عن واقع القانون الدولي، إلا أنه يمكننا القول بأن انضمام فلسطين لمحكمة الجنايات الدولية يمكنه أن يجنب حدوث جرائم حرب أخرى قد تحدث في المستقبل و عندها سوف تحسب اسرائيل ألف حساب قبل شنها أية عملية عسكرية جديدة ضد قطاع غزة .
و يرى خبراء القانون الدولي أن الشيء الفعلي الذي يمكن أن تحاكم به السلطة الفلسطينية قادة اسرائيل في المستقبل عبر محكمة الجنايات الدولية هو قضية الاستيطان في الضفة الغربية ، حيث مازال هناك استيطان إسرائيلي في أراضي الضفة الغربية و ليس من المتوقع أن تتخلى اسرائيل عن الاستيطان في المستقبل القريب، لكن بالرغم من مخالفة الاستيطان لمبادئ القانون الدولي لا يمكننا أيضا التوقع بإمكانية نجاح السلطة الفلسطينية في محاكمة القادة الاسرائيليين بسبب الاستيطان ، حيث يوجد أيضا هناك ثغره قانونية أخرى في اتفاقية روما يمكن أن يتم استغلالها من قبل اسرائيل من أجل انقاذ قادتها من أية تهم محتملة ضدهم ، وتكمن هذه الثغرة في المادة رقم 124 في اتفاقية روما والتي تنص حرفيا على التالي: ” بالرغم من أحكام الفقرة 1 من المادة 12 , يجوز للدولة , عندما تصبح طرفاً في هذا النظام الأساسي أن تعلن عدم قبولها اختصاص المحكمة لمدة سبع سنوات من بدء سريان هذا النظام الأساسي عليها , وذلك فيما يتعلق بفئة الجرائم المشار إليها في المادة 8 لدى حصول ادعاء بأن مواطنين من تلك الدولة قد ارتكبوا جريمة من تلك الجرائم أو أن الجريمة قد ارتكبت في إقليمها , ويمكن في أي وقت سحب الإعلان الصادر بموجب هذه المادة , ويعاد النظر في أحكام هذه المادة في المؤتمر الاستعراضي الذي يعقد وفقاً للفقرة 1 من المادة 123″
و نستطيع أن ندرك بوضوح من خلال قراءة هذا البند أنه يمكن لإسرائيل أن تنضم فورا لمحكمة الجنايات الدولية من أجل تفعيل المادة رقم 124 التي تتيح لها فرصة اصدار إعلان رفض لأي تحقيق ضد قادتها عبر المحكمة الدولية في قضية الاستيطان و بذلك يمكن لإسرائيل بعد انضمامها لمحكمة الجنايات الدولية أن تطالب محكمة الجنايات الدولية بأن يتم تأجيل التحقيق مع قادتها الإسرائيليين لمدة 7 سنوات، تقوم خلالها اسرائيل بالتفاوض مع الفلسطينيين من أجل ايجاد اتفاقية تفاهم معهم حول قضية الاستيطان الإسرائيلي وبذلك تتهرب اسرائيل من أي حكم قضائي قد يُجرم قاداتها في قضية الاستيطان، أما في حال رفض الفلسطينيين أي حل يتم طرحه عليهم من قبل الاسرائيليين في مجال قضية الاستيطان فتمكن هذه المادة رقم 124 في اتفاقية روما إسرائيل من مراجعة قوانين الدولة وعمل التعديلات اللازمة من أجل مراعاة القانون الدولي وعندها يمكن لإسرائيل أن تقوم بتشكيل لجنة تحقيق محلية مكونة من خبراء قانونيين اسرائيليين يقع على عاتقهم مسئولية إيجاد مخرجا قانونيا لتلك القضية ، وحتى لو نجحت السلطة الفلسطينية في إقناع محكمة الجنايات الدولية بضرورة بدء التحقيق مع مسئولين اسرائيليين في أي قضية، فإن تلك الخطوة سوف تواجه أيضا بتحدي أخر و اعتراض كبير من قبل أعضاء مجلس الأمن حيث حسب المادة رقم 16 في اتفاقية روما يحق لمجلس الأمن تأجيل أو ارجاء التحقيق في أي تهمة لمدة 12 شهرا قابله للتجديد ، لذلك فهناك احتمال كبير أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية حليفة اسرائيل بمهمة اعتراض أي قرار تتخذه محكمة الجنايات الدولية ضد أي مسئول اسرائيلي و أن تقوم بإرجاء أي عقوبة صادرة عن تلك المحكمة ضد أي قائد إسرائيلي.
و أخيرا ، يمكننا القول بأنه يجب على الفلسطينيين أن لا ييأسوا و أن يستمروا ببذل مزيد من الجهود السياسية عبر المحافل الدولية من أجل اقناع المجتمع الدولي بعدالة القضية الفلسطينية و من أجل تحشيد الرأي العام الدولي لصالح حماية المدنيين الفلسطينيين و المطالبة بتعويض ضحايا الحروب الاسرائيلية من المدنيين الذين تعرضوا للقتل و التشريد وتسببت لهم الحروب الاسرائيلية بإعاقات جسدية دائمة، فلا يكفي أن يقوم المجتمع الدولي بتقديم مساعدات انسانية طارئة لأهالي القطاع بل يجب العمل على إيجاد حل سياسي عادل ينهي الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني للأبد و في ذات الوقت يجب أن يتم مطالبة اسرائيل أيضا بتعويض ضحايا حروبها من الفلسطينيين المدنيين و تحميلها المسئولية القانونية للدمار الكبير الذي تعرض له قطاع غزة بسبب الهجوم العسكري الإسرائيلي.
دنيا الوطن