تتسع خطوط الصدع في العراق فيما يحرز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش” مزيداً من التقدم. وحتى بينما تحاول الحكومة الشيعية في العراق ترسيخ أقدامها، فإن السنة في البلد يفقدون ثقتهم في الإبقاء على دولة واحدة، فيما يتطلع الأكراد إلى الاستقلال بدورهم. ولكن، ما “داعش” في الحقيقة؟
* * *
صوت فرقعة عالية. في منتصف النهار، حيث الشمس الساطعة يفشل السائق محسن في رؤية مانع السرعة (المطب) على الطريق المؤدي إلى الموصل. ولحسن حظه، فمانع السرعة كردي، مصنوع من الإسفلت. ويقول محسن: “المطبات التي تصنعها الحكومة في بغداد إسمنتية ومحددة بزوايا بحيث تدمر إطاراتك في الحال”. ويقول مبتسماً إن المطبات الكردية أكثر نعومة، لكنها تؤدي غايتها المقصودة. ويضيف: “هذه بالضبط الطريقة نفسها التي يقودون بها السياسة”.
فيما يتصارع السنة والشيعة من أجل النفوذ في البلد، يستفيد الأكراد من الفوضى العارمة التي عمت العراق في الأسابيع الأخيرة من أجل زيادة رقعة نفوذهم. وتوجد طريق يكثر السفر عليها بين الجزء الكردي من العراق، المستقل بحكم الأمر الواقع، وبين الموصل -المدينة التي تعج بالسكان والتي سقطت في أيدي المجموعة الإرهابية “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (داعش). إنها الطرق مثل هذه هي التي تقف لتكون رمزاً ومسرحاً للدراما التي تتكشف الآن في العراق.
لقد استخدم المتطرفون هذه الأرضية المهترئة من الإسفلت للتقدم، بينما استخدمها آلاف اللاجئين للهروب. كما استخدم الطريق مقاتلو الميليشيات الكردية، الباشميرغا، في تقدمهم بدورهم -كل ذلك تم في الأسابيع الثلاثة الماضية بعد أن غزا مقاتلو “داعش” هذه المدينة التي تضم مليوني إنسان في هجوم سريع خاطف.
مسيرة مظفرة
باستخدام الموصل كقاعدة لها، بدأت مجموعة “داعش” ما يبدو تقدما منتصراً عبر شمال غربي العراق قبل أن يتم إيقافها خارج بغداد وحسب. وتقدر الأمم المتحدة عدد الأشخاص الذين هربوا منذ بدء تقدم “داعش” بحوالي نصف مليون شخص. وتحكي الطريق المؤدية إلى الموصل قصة التناقضات التي تكشفت منذئذٍ. ففي يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، اصطفت السيارات عند نقطة تفتيش على طول الطريق الذي تشغله القوات الكردية التي يحمل كوخ حراستها رسالة مخطوطة بطلاء رش باللون الأحمر: “آخر نقطة تفتيش للباشمارغا”.
ثمة عربات عسكرية متروكة على جانب الطريق، مع بعض القمصان المغطاة بالغبار إلى جانبها -آخر بقايا الوجود السابق للجيش العراقي هنا. لكن السائقين هنا لا يهربون من الموصل. إنهم يقودون سياراتهم عائدين إلى المدينة التي تسيطر عليها داعش. وعندما سئلوا عن السبب في هذه العودة، قدم العديد الجواب نفسه: “كل شيء سلمي هناك، طبيعي. جماعة “داعش” لا يتدخلون. المستشفيات والإدارات البلدية -كلها تمارس أعمالها كالمعتاد في كل مكان”. ويقول أحد السائقين إن “داعش” لا تطبق حتى خطتها لمنع التدخين: “أنا أدخل وأخرج بسيارتي كل يوم وأنا أدخن دائماً!”.
الأشياء الوحيدة التي لا يمكن العثور عليها في الموصل راهناً هي الكهرباء والبنزين. ونقص البنزين مشكلة في كل مكان آخر. فمنذ اشتعال النار في أضخم مصفاة نفط في العراق في “بيجي” إلى الشمال من بغداد، أصبح من الصعب الحصول على البنزين في كردستان، حيث يضطر الناس للانتظار ساعات طوال في محطات الوقود أو إلى شراء الوقود من السوق السوداء.
تتندر قوات الباشمارغا عند نقطة التفتيش المذكورة وتسخر من “داعش”، ويمزح أحد المقاتلين بالقول: “إننا لا نستطيع التحدث معهم في كل الأحوال… أنا لا أتحدث الأفغانية”. وكان الاتصال الوحيد الذي أجراه الرجال مع مقاتلي “داعش” من خلال مناظير بنادق القنص المنصوبة على بعد 50 متراً (164 قدماً) خلف متراس رملي.
طبيعة غريبة
تسافر سيارات الشحن المحملة بالغذاء وسقط المتاع ومعادن الخردة في كلا الاتجاهين. وتمكن مشاهدة سكان الموصل وهم يقودون سياراتهم متجهين لشراء البنزين في كردستان. وفي الحقيقة، تبدو الحياة في الموصل هذه الأيام طبيعية بشكل غريب، إذا اعتبرنا أن أعظم قوة إرهابية في الشرق الأوسط تسيطر راهناً على المنطقة -مجموعة بنت سمعتها المتعطشة للدماء في سورية من خلال عمليات الإعدام الجماعية وقطع الرؤوس. فهل من الممكن فعلاً أن يكون مجرد 1000 جهادي مسلحين ببنادق كلاشنيكوف وبضعة مدافع مضادة للطائرات مركبة على سيارات شحن صغيرة “بكبات” قد نجحوا في السيطرة على مدينة تضم مليوني شخص في الأسبوعين الماضيين؟ تبدو هذه الفكرة في حد ذاتها غرائبية.
يقول أستاذ جامعي قديم كبير في السن من الموصل، والذي هرب إلى أربيل في المنطقة التي تقع تحت السيطرة الكردية كإجراء احترازي: “كان الأمر أشبه بدراما كبرى. لن تستطيع أن تصدق أن قلة من الشيشان والمصريين والتونسيين استطاعوا إخضاع الموصل لسيطرتهم وحدهم. هل باستطاعتك تصديق ذلك؟”، ويقول الأستاذ إن مقاتلي “داعش” قد يرتدون الأقنعة بينما يقفون عند نقاط السيطرة، لكن عدداً لا بأس به منهم يتحدث اللكنة الموصلية، اللهجة المحلية المستخدمة في الحصن السابق لقوات حرس صدام حسين”.
يعتقد الأستاذ بأن الوصول إلى السلطة في الموصل، بالإضافة إلى مدينة مسقط رأس صدام حسين، تكريت، وأماكن سنية أخرى، لم يكن بأي شكل من الأشكال غزوا قامت به “داعش” وحدها، وإنما كان جهداً مشتركا انخرطت فيه كل القوى السنية. ويقول: “لقد شاركت في ذلك أضخم القبائل كما فعل إسلاميون آخرون، وكان جماعة الحاشية السابقة لحزب البعث لصدام هم الذين شدوا الخيوط”.
تبعاً لذلك، كما يقول، تبدو المناطق التي وقعت تحت سيطرة “داعش” هادئة الآن. كما كان من المناسب لهذا المنطق أيضاً أن “داعش” لم تعين أي متشددين متدينين في منصب الحاكم في الموصل أو تكريت، وإنما عينت فيهما ضابطين سابقين ومسؤولين من حزب البعث. وحتى الجنرال شيركو عبد الله، القائد الكردي للقوات في كركوك، يعتقد بأن التقارير التي تتحدث عن تقدم “داعش” إنما تقول نصف الحقيقة. ويقول: “ربما يتوافرون على القدرة لغزو منطقة ما مؤقتاً وحدهم. لكنهم يحتاجون للمحافظة على السيطرة إلى شبكة قوية، خاصة في مدينة رئيسية مثل الموصل. وقد لعبت حاشية صدام القديمة دوراً في الخلفية”.
“حتى أنهم لا يعتبروننا بشراً”
على طول الطريق الممتدة في المناطق الكردية، ثمة المئات من العائلات التي ما تزال تقيم في مخيمات مغبرة. وينحدر معظمهم من مدن سنية تقع أبعد في الجنوب. وهم يدعون بأنهم هربوا خوفاً من الضربات الجوية التي أمر بها رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي -وليس من الجهاديين. ويقول جميل، ضابط الشرطة الذي كان قد ترك القوة في تكريت: “إنهم حتى لا يعتبروننا نحن السنة بشراً. الشيعة فقط هم الذين يترقون ليصبحوا ضباطاً، والشيعة فقط هم الذين يتلقون عقوداً حكومية. كنا نعد مواطنين من الدرجة الثانية”. وكان جميل ووالده قد هربا مع عائلتيهما عندما سمعا أن الطائرات النفاثة السورية قصفت مواقع سنية في العراق. ويقول جميل: “المالكي طلب من الأسد قصفنا نحن العراقيين، لأنه لا يتوافر على طائرات تحت تصرفه. أي زعيم هذا؟”.
بعد أحد عشر عاماً من دخول القوات الأميركية إلى البلد، وبعد ثلاثة أعوام من انسحابها، يبدو تفكيك العراق كدولة واحدة أمراً وشيكاً. وتعتقد قلة من السنة والأكراد في الشمال بأن ثمة فرصاً لمستقبل مشترك في بلد واحد. وتأتي هذه المشاعر لتكون تعبيراً عن اليأس الكامل أكثر من كونها نتاج أي كراهية كامنة. وكان صدام حسين قد سعى إلى إخضاع الشيعة، لكن المالكي يحاول راهناً فعل الشيء نفسه مع السنة. وببساطة، فإن الدولة العراقية لم تعد تعمل.
المالكي الذي كان قد فاز في الانتخابات البرلمانية في نهاية شهر نيسان (أبريل) الماضي بثلث مجموع الأصوات وحسب، ما يزال غير قادر على تشكيل حكومة ائتلافية منذئذٍ، وما يزال يبذل قصارى جهوده لتأكيد كل تحفظ يتحدث به الناس عليه. وفي كلمة متلفزة له في الفترة الأخيرة، هاجم المالكي الدعوات التي انطلقت من واشنطن وأوروبا لتشكيل حكومة وحدة وطنية من القادة الشيعة والسنة والأكراد. ووصف تلك الدعوات بأنها “انقلاب على الدستور” و”هجوم على العملية الديمقراطية الفتية”.
في الأثناء، يبدو المالكي متمتعاً بالحصانة التي تقيه عواقب محاولات أميركا ممارسة الضغط المالي عليه. فقد جعلت بلايين الدولارات التي ولدتها حقول النفط في البلد من بغداد مستقلة من الناحية المالية. ويرجح أن يكون القادة الإيرانيون وحدهم هم الذين ينطوون على فرصة الإطاحة بالمالكي. لكنه يظل أيضاً رجلهم الذي يتبنى السياسات الطائفية التي تعكس رغباتهم.
بلد في طور الانهيار
على هذا النحو، تستمر الدلائل في العراق بالتأشير في اتجاه الانهيار الوشيك. وفي الأثناء، تتصرف “داعش” استراتيجياً أفضل بكثير مما تصرف تنظيم القاعدة في السابق. في سورية، تقوم المجموعة الإرهابية بإرهاب وقتل الثوار السنة الذين يقاتلون ضد نظام بشار الأسد. وفي المقابل، ترك سلاح الجو التابع للأسد “داعش” تصول وتجول وحدها وتمدد قاعدة قوتها في شمال شرقي سورية.
لكن “داعش” في العراق تركت السنة لشأنهم وقامت بدلا عنهم بقتل المسيحيين واليزيديين في بعض الأماكن، بالإضافة إلى قتل جنود شيعة في جيش الحكومة. ومع أنه التنظيم الإرهابي نفسه، بل وحتى المقاتلون نفسهم، فإنهم ينتهجون أهدافاً مختلفة كلية في كل من البلدين. وليست هذه هي الطريقة التي يعمل بها المتشددون عموماً.
في الوقت نفسه، تبين الطريق بين الموصل وأربيل كم يبقى السلام الراهن مخادعاً. يمكن أن يسود الهدوء لساعات قليلة، ثم فجأة تشرع قافلة كاملة من قراقوش، الضاحية المسيحية في منطقة الموصل، في شق طريقها هاربة نحو الأراضي الكردية. ويدعي الناس بأن هناك قنبلة يدوية انفجرت في المدينة. ويدعي البعض بأنه سمع صوت انفجارها، لكن سماع الشائعة يكون كافياً عند آخرين للمباشرة بالانتقال. ويهرب الآلاف من الناس في حمى فوضوية. ويصرخ أحدهم: “داعش تهاجم”، ويصيح آخر: “لقد قصفوا الكنائس”.
في النهاية، يتبين أنه كان هناك تبادل قصير لإطلاق النار بين “داعش” والقوات الكردية التي كانت قد سعت إلى تأمين موقفها بحفر خندق. وقد أفضت أعوام من الخوف الكامن إلى ذعر عام. وطوال الليل كانت القافلة المكونة من السيارات المحملة تشق طريقها صعوداً إلى التلال مع وضع لاصق على النوافذ الخلفية التي تجلس فيها نساء غير محجبات. ويتوافر المعظم على النزر اليسير من المتاع، وقد جلب معه محافظ الأوراق وحقائب السفر الصغيرة ومياه الشرب.
الغد الأردنية