دولة جنوب السودان الفتية والتي لم يبلغ عمرها “المديد” عاما بعد، لم تتردد في القيام بهجوم عسكري على منطقة هجليج الغنية بالنفط واحتلالها، لتبدأ حربا هي الأولى – في سلسلة من الحروب قادمة- مع الدولة الأم التي انسلخت عنها كما ستنسلخ أقاليم أخرى بفضل “حنكة” قائدها الفذ، الذي قاد بسياساته “الحكيمة” إلى هذا الواقع البائس.
السودان الذي قفز إلى حكمه الجنرال عمر البشير، كان قد حكمه جنرال آخر قل نظيره في النظام العربي الرسمي المعاصر يدعى سوار الذهب، هذا السوار الذي تفتقر امة العربان إلى أمثاله، ربما سيكون “عملة” نادرة في واقع هذه الأمة، سوار آثر أن يخلص البلاد من ديكتاتور حكم البلاد باستبداد، وانقلب على رفاقه في الحكم، واعدم البعض منهم، وألقى بكل القيم والمبادئ خلف ظهره، ولم يخلص البلاد والعباد منه سوى هذا السوار الذهبي، الذي نقل البلاد من الديكتاتورية إلى الديمقراطية وترك الحكم طائعا بلا إكراه، معتقدا انه قد ثبت ديمقراطية حقيقية في بلاد نخرها الفساد والظلم والظلام.
واقع الحال ان عمر البشير جاء إلى سدة الحكم من خلال انقلاب على الحكم الديمقراطي، وقام خلال سنوات حكمه الطويلة بإعدام العديد من رفاقه من العسكر الذين اتهمهم بمحاولات الانقلاب عليه، وأدخل البلاد في أتون حروب كانت في غنى عنها، كما وربطها بمجموعة علاقات اقل ما يقال عنها انها مشبوهة، وساوم على الكثير من القضايا، وقيل انه سهل عملية تهريب كثير من يهود إفريقيا إلى إسرائيل، عدا عن دوره في تسليم المناضل العالمي كارلوس إلى فرنسا في محاولة منه لنيل الرضا الغربي عن مواقفه وسياساته.
الهجوم الذي قامت به دولة الجنوب ليس غريبا، خاصة عندما نعلم ان قائدها قام بزيارة إسرائيل في أول زيارة للخارج، وأقام سفارة لدولته الوليدة في مدينة القدس التي تعتبر بحسب الشرائع والقوانين الدولية مدينة محتلة، خطوة لم تقدم عليها دولة مثل أميركا التي تعتبر الدولة الأولى في العالم دعما للكيان.
ما يجري في السودان، هو النتيجة الطبيعية لبقاء مثل هكذا أنظمة ديكتاتورية، أنظمة لديها الاستعداد للتضحية بثلاثة أرباع أوطانها من اجل البقاء قي سدة الحكم،ولديها الاستعداد ان تقتل عشرات الآلاف وان تجرح مئات الآلاف وان تعتقل أمثالهم، وان تتسبب في لجوء “الملايين” أحيانا- كما حصل في العراق-، ليس مهما ماذا سيحدث للأوطان أو الشعوب، المهم ان يبقى الرئيس رئيسا وان يبقى الحاكم بأمره على كرسي الطغيان والظلم، ومن بعده ليكم الطوفان.
ما يجري في السودان ليس سببه الغرب القبيح الذي ترعرعنا على بغضه وكراهيته لأنه السبب في كل مصائب امة العربان، وليس صحيحا ان كل ما يجري لهذه الأمة هو من فعل دولة الاغتصاب في فلسطين، فهناك العديد من الأسباب التي نعلمها وندفن رؤوسنا في الرمل من اجل ان لا نراها، ما يجري في السودان سببه جنرال أتى من قرية منسية أغواه المنصب والجاه، ولم يعد يميز بين الخبيث والطيب ، وهو على دراية ان دارفور ستكون الثانية بعد الجنوب.
دولة الجنوب الفتية، ستكون خنجرا ليس فقط في الخاصرة السودانية، لا بل في القلب الإفريقي، كما كانت دولة العدوان في فلسطين، ذات دور مشبوه وتقوم بادوار سرطانية لا تقل خطورة عما تقوم به دولة صهيون، ولكن علينا مراجعة الأسباب والمتسببين.
إننا في تقديري نفتقد إلى الشجاعة في توصيف الواقع ووضع الأصبع على الجرح، ونفضل الحديث عن مؤامرة خارجية من هنا أو هناك، وهذا يعود إلى ما تم زرعه في وجدان كل واحد منا عندما ساد بيننا المثل القائل “الحق على الطليان” وهو تماما كالمثل الذي تعلمنا منذ الصغر ” بأن حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس”، أو كالمثل القائل ” اليد لا تناطح المخرز” علما ان اليد تستطيع ان ترمي حجرا أو تلقي قنبلة أو تكتب مقالا، أمثلة ظلت وستبقى عبئا على تراثنا وثقافتنا وتقدمنا، وستبقى الحائط الذي نختبئ ورائه لنخفي عورات فشلنا.