أما الآن وقد عقد المجلس الوطني وأنهى اجتماعاته بحسب ما أراد الرئيس، رغم كل الجدل وحتى المقاطعة او الاعتراضات الصاخبة التي رافقت الدعوة الى عقده، فإن الرجل يستطيع الشعور بأنه سجل نقطة مهمة على لوحة العلامات، لا في مواجهة معارضيه في الداخل الفلسطيني ولكن قبل أي شيء في التأكيد على ان النظام او المنظومة والإرادة السياسية التي يترأسها، هي المحور او العنوان او اللاعب الرئيسي في كل ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. وانه من هنا يمكن البدء بحوار من نوع آخر، سواء من اجل إنهاء الخصام مع «حماس» او مع ما يسمى الأطراف المؤثرة في عملية السلام.
هل لهذا السبب كان خطاب الرجل الختامي على قدر أوضح في ميل تصالحي او اقل حدة في لهجته تجاه «حماس»، بدعوتها الى الدخول في النظام السياسي بإشارته الى ترك ثلاثة او اكثر من المناصب الشاغرة في اللجنة التنفيذية الجديدة أمام الحركة والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والمبادرة المستقلة؟، وتأكيده على نحو مباشر وحتى مفاجئ بمخاطبة الموظفين العموميين في غزة والغزيين بوجه عام ومن ورائهم «حماس» نفسها، انه لا يقوم بمعاقبة غزة وهو لا يسمح بذلك معلنا منذ يوم امس الجمعة، البدء بصرف الرواتب.
ولكن إذا كان هذا الافتراض صحيحا فإن المسألة المطروحة ما بعد انعقاد المجلس وما يبدو انه انتصار الرجل في تحسين شروط مناورته السياسية داخليا، ليس ماهية جواب «حماس» والمعارضة الأخرى على دعوة الرجل، وإنما إعادة تقييم ونقاش ما نراه هنا السؤال حول مدى واقعية وجدارة وإمكانية فرض تطبيق المعادلة التي طرحها الرئيس في خطابه الافتتاحي المطول، مع بدء عقد اجتماع المجلس والتي اختصرها هو على النحو التالي: «أما، او»، أي أما ان تسلم «حماس» غزة للسلطة او تتحمل هي أعباء حكمها، وهي معادلة بنظري من الصعب تحقيقها او قبول «حماس» بها.
ان احد الأسئلة التي يمكن طرحها في إطار هذا النقاش للإشارة الى الجوانب المعقدة وربما الصعبة او الإشكالية التي تنطوي عليها هذه المعادلة، هو حول الواقعية او الجدوى وربما سلامة النظرة الاستراتيجية في اشتراط تطبيق او استنساخ مفهوم ممارسة السلطة في الضفة تحت الاحتلال الإسرائيلي، بنفس النموذج في غزة الأقرب هنا الى نموذج وظروف او تجربة «جمهورية الفاكهاني» وغابة البنادق في بيروت.
وإذا كنا نتحدث طوال الوقت عن مفهوم يؤطر المصالحة او الوحدة الوطنية او مفهوم الائتلاف والجبهة الوطنية الواحدة يقوم على مبدأ الشراكة، فما هو الاختلاف او الفارق بين الانصهار او الاندماج وبين مفاهيم أخرى من قبيل التكامل او تبادل الأدوار والتقاسم الوظيفي، وتاليا التعددية والتنوع الذي يعبر عنه ماوتسي تونغ في عبارته الشهيرة التي طالما رددها عرفات «دع مائة زهرة تتفتح» حيث أضاف عليها عرفات «في الحديقة الفلسطينية»، وهذا بالضبط بيت القصيد. أي الاختلاف والتنوع والتكامل في الحديقة الفلسطينية الواحدة ووحدانية النظام وتماسكه على قاعدة الكل في واحد والواحد في الكل.
والواقع ان ما نحتاج إليه الآن وبعد انعقاد المجلس الوطني الذي يقارن دوره وأهميته وظروف انعقاده بانعقاد المجلس العام 1984 في الأردن، على اثر الانقسام الفلسطيني داخل حركة فتح، أولا بانشقاق بعض اشهر ضباط الحركة العسكريين بدعم من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، واتخاذ اليسار ممثلا بالجبهتين الشعبية والديمقراطية موقفا من المشاركة في اجتماعات المنظمة. فإن الطريق يجب ان تكون مفتوحة الآن لعقد الدورة التوحيدية، الشبيهة بما جرى في نيسان العام 1987 في قاعة الصنوبر في الجزائر بعودة الجبهتين الشعبية والديمقراطية الى البيت الواحد، دون ان يتخلى الجميع عن فرادتهم او امحاء التناقضات بين أركان هذا الكل.
ويأخذ الرئيس الفلسطيني معبرا عن ضيقه وشعوره بالملل من الرأي الذي تتبناه فصائل اليسار، حين يعبرون وربما نحن الكتاب معهم عن النظرة المتساوية لكل من «فتح» و»حماس» في المسؤولية عن إدامة هذا الانقسام. وقال الرئيس مؤخرا ان هذا لم يعد مقبولا واعتبره نوعا من النفاق السياسي، وعاد في خطابه القصير في ختام اجتماع المجلس الوطني وكرر مطالبته بالخروج من هذا الموقف والقول بجرأة لمن اخطأ انه اخطأ.
هل نقول إذاً، إننا نحتاج الى سبعة قضاة محلفين ليحكموا في هذه القضية؟ أم الى النبي يوسف عليه السلام ليفتي لنا فيها؟، لكني أظن ان هذه المسألة سوف تظل متروكة لحكم التاريخ. وانه من غير المجدي القول بعد 12 عاما على أطول انقسام يعرفه الفلسطينيون من ارتكب الخطيئة الأولى، وإنما لماذا طال هذا الانقسام ولم نتمكن طوال هذا الوقت من التغلب عليه، أي لماذا استعصى هذا الانقسام على الحل؟.
ونعرف الآن ان الانقسام في أوائل الثمانينيات وقبل ذلك في أواسط السبعينيات لم يستغرق إنهاؤه او الخروج منه وقتا طويلا، لا لأنه لم يكن وازنا داخليا فقط ولكن لأنه كان خارجيا أي بدعم من العراق وسورية في كلا الحالتين. وكان لحدث خارجي كبير ومؤثر كتوقيع اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل يغير المعادلات الخارجية او الإقليمية المؤثرة على هذا الانقسام.
أما في حالة فتح وحماس الأخيرة فإننا بإزاء أزمة بنيوية داخلية بين قوتين كبيرتين وعلى قدر تاريخي من التنافس او الصراع، وانه بهذا المعنى او في هذا السياق لا يمكن حسمه بطريقة الإحلال او الإقصاء او الإذابة وفرض العودة الى بيت الطاعة، وإنما بالشراكة على أساس التكامل او توزيع الأدوار.
وان هذا هو الفارق بين انقسامات حقبة الخارج والانقسام الحالي، الذي هو أيضا قد يكون تعبيرا او نتاجا جانبيا للتحول التاريخي الذي حدث بعد العام 1982، بانتقال ثقل العمل الفلسطيني الكفاحي والسياسي من الخارج الى الداخل. ما يطرح مقاربة واحدة ممكنة لحل هذا التعارض تقوم على قاعدة الاحتواء او الاعتراف المتبادل بخصوصية ودور كل طرف في التغلب على المشكلة الأكبر، وهو الاحتلال الذي يمثل الدور الحاسم في دفع هذين المكونين المتضادين الى الوحدة او التوافق في إطار هذا التناقض او الصراع.