غزة لا تعرف بطالة الحروب، وهذا ليس شعاراً بقدر ما هو توصيف لهذه المنطقة التي لا تمتهن سوى الصراع والرغبة في التحرر والحياة، كانت منذ سنوات هي شغلها الشاغل دون أن تتوقف حتى جاءتها هذه الحرب التي لها أن تسميها أم الحروب لما وقع عليها من سحق وظلم وصل حد السماء.
عادت الحرب من جديد دون أن يتمكن العالم من وضع حد لمأساة إنسانية متدحرجة يقلب فيها الناس جوعهم ويحصون ألمهم ويعدون فقد أحبتهم، ويتراجع يومياً أملهم بقدرة هذا العالم أو برغبته بالوقوف معهم أو تخفيف هذا الظلم الذي ألحقه التاريخ بهم لعقود طويلة، ويجرون ألمهم ودموعهم التي سالت دون توقف على الطريق الطويل.
تكمن مشكلة هذا الصراع في العقل الإسرائيلي الذي لا يجد حلاً لعلاقته الصدامية مع الشعب الفلسطيني سوى القوة، ليس لأنه فقط عاجز عن الرؤية بل لأن لديه رؤية شديدة الوضوح وهي حلمه بأن يصحو من النوم ويجد أن فلسطين التاريخية خالية من الفلسطينيين، كان الأصدق تعبيراً عن هذا الحلم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش رئيس حزب الصهيونية الدينية، وهذا الخيار بالتأكيد يلغي كل الخيارات الأخرى ويجعل القوة والإذلال والتنكيل هي الوسيلة الوحيدة في التعامل مع الفلسطينيين.
العالم الحر لا يعرف كل هذا، ولم يرَ أو يلاحظ أو يفهم أي شيء ولم يلمس أي تملّص إسرائيلي نهائياً لأكثر من ثلاثة عقود خلال كل محاولات إيجاد حل لهذه الأزمة التاريخية التي نتجت عن سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية ثم استكملت بعد عقدين في حرب ضد العرب السيطرة على الشعب الفلسطيني، لكنها لم تكتفِ بذلك بل وضعت نصب أعينها طرد ما تبقى من هذا الشعب وإخلاء الأرض من الفلسطينيين تماماً لضمان النقاء اليهودي على الأرض.
لنترك هذا العالم الأعمى أو الذي يتعامى بجدارة وعن سبق إصرار وترصد بالفلسطيني طريدة التاريخ، العالم الذي أسال شفقته حد البكاء على ما حدث في أوكرانيا وإن كان من حق الشعب الأوكراني أن يعيش بسلام على أرضه، لكن العالم مزدوج المعايير بامتياز يرى بعين واحدة لأن عينه الأخرى امتلأت بالقذى كما قال السيد المسيح حين كان يضع أسساً لقواعده الأخلاقية، ولسوء حظه فإن هذا العالم «الحر» يدعي أنه يدين بديانة ذلك الأخلاقي القديم.
تعب الكلام ولم يعد يجدي كل ما يقال، فماذا يعني أن تكتب وسط بحر من الدم ماذا يفيد ؟ قال محمود درويش عن صيامه عن الكتابة أثناء حرب بيروت: «لا قيمة للكلام في حضرة الدم».
والأسوأ أن تكتب لعالم غادر مربعه الأخلاقي منذ زمن وأدار ظهره لكل القيم والأديان والدساتير، فقط يستلّها حين يتعلق الأمر باللون الأبيض والشعر الأشقر، وما دون ذلك لهم أعراف وقوانين تعج بالعنصرية والتجاهل فدمهم ليس كدم البشر وحياتهم ليست كحياة البشر؛ لأن هذا العالم مسخر لخدمة شعوب ولحياة شعوب دون أخرى.
صراع إسرائيل ليس مع حماس، فأعمار وجنس من قتلتهم تقدم أدلة دامغة على أن ما تقوم به هو عملية إبادة تجري تحت ستار محاربة حماس، بعد أن شهد الفكر السياسي الإسرائيلي تحولاً هائلاً تجاهها من الحركة التي اعتبرها مكسباً سياسياً، حيث قال نتنياهو يوماً في آذار 2021 إن «منْ يُرِد الحفاظ على الانقسام ومنع إقامة الدولة الفلسطينية عليه أن يرسل أموالاً لحماس»، إلى الحركة التي باتت تشكل تهديداً وجودياً بعد السابع من أكتوبر وليس تهديداً أمنياً، مليار ونصف المليار مررتها إسرائيل في السنوات الخمس الماضية لحركة حماس دفعت ثمنها.
لكن إسرائيل تصر على تدفيع مواطني غزة الثمن وأثناء ذلك تستل إسرائيل كل مشاريعها القديمة دفعة واحدة مستغلة هذا التعاطف الدولي لتنفيذها من تهجير وترحيل ونقل إلى سيناء إذا تمكنت وإذا لم تتمكن تخفف من الغزيين بالموت.
قال نتنياهو: «يجب إحداث تغيير بالوعي على نمط اليابان وألمانيا» وهذا أخطر ما قيل ويفسر ما يحدث من نيران تحترق بها غزة وشعبها. فقد ضربت اليابان بقنبلتين نوويتين. وبات واضحاً أن هذا القتل الجماعي للمدنيين في غزة هو تقليد لما حدث هناك.
هكذا يقرأ نتنياهو التاريخ بدم الضحايا: تاريخاً مغمّسة صفحاته بدم المظلومين.