لا بد من كسر المحرّم الذي يجعل الحوار جريمة والآخر عدواً، فاحتمال أن تذهب سوريا إلى الفوضى، لا مجال للحيلولة دونها بغير التوافق على صورة الوطن بين تياري العمل السياسي الراهن: الديموقراطي والإسلامي، وتحريم استعمال السلاح بين أطراف المعارضة.
يعيش العقل السياسي السوري على المحرمات، التي منها الحوار أو التفاوض مع أهل النظام، وبالمقابل، التعرض بالنقد والتأمل لما تعيشه المعارضة من ثغرات وعيوب ونواقص لا حصر لها، كان من شأنها القضاء على الثورة لولا التضحيات الأسطورية التي أخذ الشعب على عاتقه تقديمها يومياً وفي كل مكان من ارض سوريا.
من محرمات العقل السياسي السوري الحوار بين الأحزاب والجماعات السياسية والمقاومة. ومن يقرأ كيف يخوّن بعض حملة السلاح، رئيس المجلس العسكري في الحسكة العقيد حسن عبد الله، لأنه وقع اتفاقاً ينهي النزاع مع حزب «البايادي» الكردي ويخرج سوريا من خطة رسمها النظام بإتقان وحرص كي يدفعها إلى حرب اهلية تتنوع أطرافها بتنوع الأمكنة والمناطق التي يريد لها أن تنشب فيها، يدرك كم هي مستحكمة عقلية رفـض الحوار مع الآخر ومعرفة الوقائع على حقيقتها، وكم يجنح السوريون اليوم إلى إطلاق احكام جائرة وتعسفية ضد من لا يتفقون معهم في الرأي والموقف، حتى إن كانوا مقاومين وعلى استعداد لأن يضحوا يومـياً بحياتهم في سبيل الوطن والثورة. بدل سؤال العقـيد عن الاتفاق الذي وقعه ومناقشته معه، ينقض نقاده عليه بتهم تخوينية، لكن هذا ما يحدث، لشديد الأسف، بين من يفترض أنهم ينتمون إلى صف واحد وقضية مشتركة.
لا يعود رفض الحوار إلى الحال الانفعالية التي يعشيها السوريون نتيجة البطش الرسمي بهم. إنه متأصل في بنيتهم العقلية القليلة العقلانية، التي تجعل رأي كل واحد منهم هو الفيصل في كل أمر، وتوهمه أن رفض أي رأي آخر، بما في ذلك رفض التعرف عليه، مسألة مبدئية لا يجوز التهاون فيها تحت أي ظرف ولأي سبب كان. لا عجب إذن أن الأحزاب السورية لا تتحاور بل تتهاتر، وأن جماعات الشعب لا تعرف بعضها البعض، وأن المؤسسات السياسية تقوم على إقصاء سواها وتشويه سمعته والعمل على تقييد حركته وتجريده من اتباعه وانصاره، وأن عملها يتلخص في انكار حقوقه بل والقضاء عليه. لا عجب أيضا أن تسود حتى في المنظمات الجامعة، التي تضم أكثر من طرف سياسي او مقاوم، صراعات استبعادية ومكائد تحريضية وتقويضية على حساب الجوامع المشتركة والتصرفات المتعدية لأي تنظيم أو حزب، وأن تستخدم المشتركات من أجل إقصاء الآخر، الذي لا يمكن أن يكون غير منافس ومزاحم، ومن المحال كسبه ولا مفر من تحجيمه أو تهميشه أو إخضاعه للخطط والرغبات الخاصة، حتى عندما تكون هناك علاقات تحالفية وصلات تكاملية معه، فالتحالف لا يعني الاقلاع عن إفراغ التنظيمات الأخرى من قوتها او حضورها الشعبي، وعن تقويض قدرتها على المبادرة، وإلزامها برأي التنظيم الخاص، خاصة إن كان أكثر مالاً وسلاحاً وعلاقات مع الخارج. ولئن كانت الضرورات تفرض التعامل مع الآخر، فإن هذا التعامل يجب أن يكون ظرفياً تتخلله محاولات خفية او معلنة لتبديل توازنات القوى ضده، باستخدام قوتها نفسها من اجل إنهاكه وإضعافه، ريثما يتم التخلي عن العلاقة معه وإخراجه من الساحة السياسية أو احتواؤه. ومن يتابع كيف تصرف إسلاميو المجلس الوطني يرى بأم عينيه كيف استخدم هؤلاء قوة الآخرين وسمعتهم لخدمة أغراضهم، التي كانت خفية أول الأمر، ثم توضحت بقدر ما تمكنوا من السيطرة على المجلس والتلاعب بتياراته وتحويلها إلى هياكل تابعة، لم يبق لها في نهاية المطاف أي شيء من أمرها غير الاستسلام لهم، علماً بأن المجلس تأسس من أجل توحيد المعارضة ـ كي تقدم التغطية «الوطنية» اللازمة لتدخلات الخارج في الشأن السوري -، ولم يؤسس كي ترضخ أطرافها لأحابيل ومكائد الإسلاميين ولنفوذهم ومالهم السياسي. والملاحظ أن هؤلاء كانوا يرفضون دوماً فتح أي حوار مع أي «حليف « لهم في المجلس، خاصة إن كان يتناول علاقات أطرافه الداخلية، أو يريد إرساءها على أرضية التكافؤ والندية.
لا بد اليوم من كسر هذا المحرَّم، الذي يجعل الحوار جريمة والآخر عدواً. والحوار الذي أعنيه هو الحوار بين الديموقراطيين والإسلاميين من مختلف الأطياف والتوجهات، وهو ضروري للأسباب التالية:
– احتمال أن تذهب سوريا من النظام الحالي إلى حقبة مديدة من الفوضى، لا مجال للحيلولة دونها ولصيانة ما سيبقى في وطننا من بشر وحجر بغير التوافق على صورة وطننا المستقبلية بين تياري العمل السياسي الراهن: الديموقراطي والإسلامي، التي يمكن أن نرسم حدودها الدنيا والعليا بالحوار أو بالسلاح، ومن الحكمة والعقلانية رسمها بالحوار وحده، لأن السلاح بالذات سيكون أداة الفوضى، فلا بد أن نحرم استعماله في ما بيننا تحريماً مطلقاً، علما بأن الحوار مع الطرف الآخر، مهما بدا اليوم مستحيلاً وبعيد المنال، هو خشبة خلاصنا، خاصة إن تمّ في ظل حسن النية والصراحة والهم الوطني المشترك. لا خيار لنا كديموقراطيين غير الحوار مع الإسلاميين، بأطيافهم المختلفة: من الطيف الذي يتعهد بتبني المشروع الديموقراطي، إلى الطيف الذي يريد إقامة دولة إسلامية، على أن نراعي في الحوار الفروق بين هذين التيارين، ونعمل على إقامة علاقة تحالفية مع التيار الأول، إن تبين خلال الحوار أنه صادق في ما يدّعيه، والتفاهم مع الثاني والبقاء في حال حوار دائم معه، حتى إن لم يتم التوصل إلى اتفاق ومشتركات جامعة معه، ما دام درء الضرر وتحاشي الفوضى وجلب المنفعة والانفتاح على الآخر والتفاهم معه، السبيل الوحيد للإبقاء على وحدة وطننا وشعبنا وسيادة دولتنا.
– تراجع دور السياسة خلال العام الذي تلى ظهور «الجيش السوري الحر» والعمل المقاوم، وتقدم دور السلاح الحثيث إلى صدارة العمل العام، مع ما رافق ذلك من فوضى تنظيمات مسلحة وتبعثر إرادات وضياع للضبط والربط، وتراجع في أدوار السياسيين وتدنٍّ في مكانتهم العامة، وتنافس مؤذٍ جعـل كل طرف من الاطراف يرى مصلحة الوطن من خلال مصالحه بدل أن يفعل العكس، وتعاظم تدخلات الخارج بالتفاهم مع تنظيمات معارضة ومسلحة، ووضع يـد الأجـانب والأغـراب على قراراتها وخـياراتها بخصوص «المسألة الوطنية السورية»، قبل تهميشها وفعل كل ما هو ضروري لدفعهـا إلى حيث يريدون: إلى الفوضى كخيار رئيس إن لم يكن وحيداً، بما ان العالم يرفض بكل وضوح أن تكون سورية ديموقراطية أو إسلامية، ولا يترك لها اي خيار غير الفوضى، لانتفاء بدائلها السياسية المنظمة، اقله في الحقبة الأولى التالية لسقوط بشار الأسد. مع تقدم دور السلاح، الذي يتركز أكثر فأكثر في أيدي الإسلاميين، وخاصة أيدي الأكثر «جهادية» منـهم، يمكن لسوريا ما بعد النظام أن تنزلق إلى سلسلة مقاتل داخلية ستحول دون وقوفها على قدميـها وتشكل مجتمعة حربا أهلية لا تبقي ولا تذر، يرجح ان تفتح الباب أمام تقسيم البلاد إلى كيانات يقولون في أميركا إنها ضرورية لتكوين فيدرالية تحمي حقوق الاقليات.
كي لا يكون السلاح، بهذه النتائج الكارثية، هو الفيصل بالنسبة إلى تطور بلادنا، لا بد من إقناع أصحابه بوضعه جانبا أثناء الحوار حول شكل الدولة المقبلة، التي سيفضي أي حل وسط بصددها إلى جعلها الخيار الأفضل المتاح، حتى في حال لم يصل الإسلام الجهادي إلى السلطة. ومع أنني لا أعتقد بواقعية احتمال وصول هؤلاء الى الحـكم، أقـله بمـا هـو بديل تاريخي يريده السـوريون، وأرى فـيه احـتمالاً ضعيفاً، بالنظر إلى التركيب السـكاني الـسوري ووجود كتلة بشرية راجحة الحجم ذات مواصفات علمية وثقافية وسلوكية وتاريخية من الصعب على الجهاديين كسبها، فإنني أدعو إلى الحوار من أجل هدف من غير الجائز ان يغيب عنا هو رد الاعتبار للسياسة في زمن تهافتها على ايدي المعارضة البائسة، وصعود زمن السلاح وما يملـيه على حملته من ميل إلى العنف والحلول القطعية، علماً بان استعـادة زمن السيـاسة لا تكـون بغير طــرح جمـيع مسائلـها الحالية والمـقبلة على طاولة حوار يدور بين بديلي نظامها الحالي: الديموقراطي والإسلامي.
– التباعد المتسارع بين هذين البديلين، الذي بدأ يأخذ شكل تنافٍ متبادل لديهما كليهما، يهدد بنقل سوريا من الثورة ضد نظامها الطغياني الاستبدادي إلى الاقتتال بين مواطنيها، مع ما سينتج عن ذلك من كوارث قد لا يكون لديها القدرة على الخروج منها في فترة قصيرة. ولعله من الحكمة الحوار أول الأمر حول موضوع رئيس هو كبح هذا التباعد والبحث عن مشتركات يوفرها لهما موقفهما الموحد من النظام، هي في قناعتي متاحة لهما، إن كان البحث عن جوامع تضمهما بالنسبة إلى المراحل التالية مسألة صعبة أو مستحيلة الآن، من المستحبّ إرجاؤها إلى حقبة مقبلة يواجه الطرفان فيها واقعاً وطنياً سيطرح عليهما تحديات ربما أفضت إلى شيء من التقارب الإجباري بينهما.
هذا الحوار الديموقراطي/الإسلامي يتطلب قبل كل شيء حواراً بين الديموقراطيين أنفسهم يوحدهم ويبلور رؤى ومواقف مشتركة بينهم، إن كان المطلوب بلوغ تسوية تاريخية طويلة الامد مع الاسلاميين. ذلك لا يعني بطبيعة الحال أنه لا يحق لأي طرف ديموقراطي الشروع في حوار مع أي طرف إسلامي قبل استكمال هذا التوافق الديموقراطي العام، بل يعني أنه لن يمكن بلوغ أية تسوية تاريخية قابلة للعيش دون هذا التوافق، في حين يمكن ربما بلوغ تسويات جزئية حول مسائل محددة بعينها، تعقد بين أطراف معينة من هنا وهناك.
أين نحن من هذا الحوار الضروري للنجاح؟ وأين نحن من الحوار بين القوى الديموقراطية؟ أين نحن من إنجاز ما علينا من مهام وطنية تسبق التفاوض مع النظام أو إسقاطه بالقوة؟ وأخيراً، أين نحن من أي شيء وكل شيء؟
السفير اللبنانية.