“إذا استمرت الأمور في السير على هذا النحو، فسوف يدون تاريخ عصرنا في ظل إشراف خلافة إسلامية”. —ديفيد سلبورن، أكاديمي وكاتب بريطاني.
من الطبيعي أن يتردد المرء في الاقتباس من سلبورن مؤيداً له فيما يتصل بالإسلام السياسي، بالنظر إلى ميله للإفراط إلى استنشاق هذا الموضوع. لكنه من الجدير بالملاحظة أنه أصدر هذا التحذير المخيف – في ورقة إيجاز لوزير الخارجية الأميركية، جون كيري، والتي نشرت لاحقاً كمقال في صحيفة “ذا نيوستيستمان”- قبل وقت طويل من الانعطاف الأحدث للتطورات في العراق وسورية. وعلى نحو محدد أكثر، سبق المقال التحرك المتهور للمجموعة المتشددة السنية، الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” لتأسيس “خلافة إسلامية” على غرار العصور الوسطى في قلب غرب آسيا، تحت قيادة رجلها المعمم، أبو بكر البغدادي، الذي أعلن نفس خليفة، و”قائداً للمسلمين في كل مكان.”
في الوقت نفسه، توجهت الاتهامات إلى سلبورن بأنه يروج رهاب الإسلام، وبأنه ينثر بذور الذعر. لكنه على ضوء التطورات الدرامية التي عصفت بغرب آسيا في الأسابيع الأخيرة، يبدو أنه كان ذا بصيرة. وبالرغم من الشكوك حول شرعيتها القانونية واللاهوتية، ناهيك عن مستقبلها غير الأكيد، فإن “الخلافة” تمثل تقدماً خطيراً جديداً، ليس على طموحات “داعش” الخاصة وحسب، وإنما أيضاً على الحركة الإسلامية ككل.
ردود الأفعال
لا يمكن إغفال الرمزية المحضة في “غزو” هذه المساحة الضخمة من الأراضي والسيطرة عليها -منطقة في حجم بنسلفانيا تمتد في سورية والعراق- و”محو” الحدود المرسومة للمنطقة. لم يعد الحديث عن الخلافة (وهي مفهوم ربما يكون العديدون لم يسمعوا به حتى وقت قريب) ضرباً من الخيال. كما أن نبرة النقاش في الدوائر الإسلامية منبئة: فبدلاً من التركيز على غرابة السعي إلى فرض نظام القرن السابع في القرن الحادي والعشرين، نجد أن النقاش كله يتعلق بالتقنيات: عما إذا كان بإعلانه نفسه خليفة من جانب واحد، يكون أبو بكر البغدادي قد اتبع القوانين، وما إذا كان “المسلمون” في كل مكان ملزمين بالاعتراف بمنزلته الجديدة أم لا.
في إدانته الخطوة، ركز الاتحاد الدولي لعلماء المسلمين، بقيادة رجل الدين السني النافذ الدكتور يوسف القرضاوي، غالباً على مسائل إجرائيةن طارحاً أن خلافة “داعش” هي “باطلة ولاغية” لأنها غير مستندة إلى “الشورى”.
عانى العلماء كثيراً من أجل تجنب أي انتقاد لفكرة الخلافة لأنها كانت ضاغطة لأنها تحتل “أهمية بالغة” لكل المسلمين، لكنهم قالوا أنها تتطلب “إجماعاً بين المسلمين في كل العالم فيما يتعلق بشكلها ومحتواها”، كما أنهم شعروا بأن “ربط مفهوم الخلافة بتنظيم معروف بأنه متطرف لا يخدم الإسلام.”
في الحقيقة، وفي العديد من الدوائر الإسلامية —بما في ذلك صحافة الهند الأوردية التي يديرها مسلمون سنة في المعظم- ثمة إعجاب ضمني بـ”داعش”. وقد أشار الموقع الإخباري الألكتروني “نيو ايج إسلام” التقدمي الذي يتخذ من نيودلهي مقراً له، إلى الكيفية التي “استغلت” من خلالها الصحافة الأوردية مقتطفات من أقوال الممرضات والعمال الهنود العائدين إلى الوطن عن محتجزيهم من “داعش”، من خلال التقليل من شأن، أو كبت الآراء السلبية، بينما تم إبراز الآراء الإيجابية.
لغز للمعتدلين
“من الواضح أن قسماً من الصحافة الأوردية يتعاطف مع “داعش”. وهذا يتطلب إعادة تفكير. فكلما قرر المسلمون البت في أمره مبكراً كلما كان ذلك من الأفضل. بينما يتم لوم نوري المالكي لتحييده السنة ولتصرفه كدكتاتور، فإن الجواب لا يجب أن يكون فرقة سنية من الإرهابيين، والمؤيدة لخلافة إسلامية بقيادة أبو بكر البغدادي ليحكم أجزاء من العراق.” كما كتب محرر “نيو ايج إسلام” سلطان شاهين.
كالعادة دائماً، وعبر حظر بعض الأصوات المتفرقة، فشلت الجماعة الإسلامية (الأمة) على نحو ضخم في التعبير عن غضبها حيال ما يفعله المسلمون مع بعضهم البعض باسم الاسلام. وكما سأل معلق بريطاني ليبرالي محقاً: ماذا عن المسلمين المعتدلين الذين نادراً ما يشعرون بغضب كاف عندما يتعلق الأمر بإدانة المتشددين المتدينين منهم، بغض النظر عن كم هم كريهين؟
من جهته، قال كاتب العمود في صحيفة التايمز ديفيد أراونوفيتش: “لماذا لا توجد هناك حركة سلام اسلامية تقوم بحملة من أجل وضع حد للعنف في البلدان الإسلامية، حيث يكون الضحايا من المسلمين ومرتكبي (الجريمة) مسلمون.”
من المهم الإجابة عن السؤال الذي يثيره العديدون؛ تحديداً، لماذا كل هذا الضجيج؟ أليس تشكيل “الخلافة” يعني ببساطة ألعاباً بهلوانية جدية وجزءاً من فن الرقص الجهادي؟ فصلاً آخر من الرص على الحبال في السيرك الاسلامي؟
حسناً ، الجواب هو أن هذا العرض على الحبل العالي لا يشبه أي شيء كنا قد شاهدناه من قبل، ويعود إلى فئة مختلفة كلية من تكتيكات “اضرب واهرب”، قل، لبوكو حرام أو حركة “الشباب” الصومالية، وحتى القاعدة التي لم تسيطر أي منها على أي أراض لأي وقت بهدف تأسيس دولة شريعة (إسلامية). وقد تمثل الاستثناء الوحيد في اتحاد المحاكم الإسلامية الذي أسس إدارة شرعية في أجزاء من الصومال، لكن القوات الحكومية سرعان ما طردتها. وكعرف، تميل المجموعات الجهادية إلى استخدام الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها كقواعد مؤقتة لشن هجمات إرهابية انطلاقاً منها. وهنان فإن ما نشاهده، بدلاً من ذلك، هو خلق ماركة جديدة من دولة إسلامية من جهة مجموعة إرهابية. وهي ليست دولة إسلامية قديمة، وإنما نموذج وهابي يستند إلى تأويل ضيق وخادم للذات من الإسلام.
وهناك تقارير عن حملة على الموسيقى وفرض للبرقع وهجمات على المواقع المقدسة الشيعية التي تعتبرها “داعش” مواقع “لا دينية”.
ثمة وجهات نظر متناقضة عن آفاق “داعش”، والتي يقلل بعضها من شأن الحركة باعتبار أنها ظاهرة قصيرة العمر، بينما هناك آخرون يعتقدون بأنها جاءت لتقول كلمتها. لكنهم كلهم يوافقون على شيء واحد: إن سياسة المنطقة قد تغيرت إلى الأحسن، وأن الحركة الجهادية نفسها قد رميت في دوامة، حيث تبدو القاعدة فجأة مثل ابن عم بائس لـ”داعش”، وهو ما يولد تكهنات بأنها يمكن أن تنقسم أكثر (داعش نفسها منبثقة عن القاعدة) وتعيد تشكيل نفسها على غرار جماعة البغدادي.
الحقيقة هي أننا أصبحنا نقف على أرض جديدة كلية، ولا أحد يعرف كيف ستؤول الأمور، لكن ما هو واضح أن الأحداث الأخيرة تؤشر على مرحلة جديدة من المعركة الطائفية من أجل التفوق في الإسلام، مع تداعيات عميقة على ما يتبقى من الإسلام المعتدل.
حملات مقلدة
سوف يعتمد الكثير على مدى استقرار الدولة الإسلامية الجديدة. ويجب على العالم الأوسع أن يكون قلقاً إذا كانت “داعش” قادرة على إثبات نفسها والتشبث بالأراضي التي سيطرت عليها وتعزيز قاعدة دعمها. لأن ذلك سيزيد من شهيتها للمزيد من “الغزوات”، وسيفاقم زعزعة الاستقرار في المنطقة، لكنه يمكن أن يفضي إلى التسبب بتهافت على حملات محاكاة وتقليد من جانب المجموعات الإسلامية الأخرى. وفي تلك الحالة، قد تمر الإستراتيجية الجهادية برمتها في تغير أساسين حيث تنتقل المعركة بعيداً عن أهداف غربية إلى دول إسلامية “عدوة”.
ثمة نظريات مؤامرة تقول أن “داعش” غربية -والأكثر تحديداً أميركية- في عملية تستهدف تدمير القاعدة من الداخل وتخليص الغرب من أكبر تهديد لأمنها. ومع ذلك، فإن هذه النظريات عصية على التوافق مع التداعيات التي ستوجدها هذه النوعية من التكتيكات على الاستقرار السياسي في منطقة للغرب فيها حصص إستراتيجية ضخمة. وبالإضافة إلى ذلك، تشكل “داعش” تهديداً لبعض أهم الحلفاء العرب للغرب، خاصة المملكة العربية السعودية.
لكن الغرب عندئذ سيخوض نوعاً من المقامرة على المكاسب قصيرة الأجل من دون أن يُعنى كثيراً بالتداعيات طويلة الأجل. فبعد كل شيء، كانت طالبان والقاعدة أيضاً من خلق الغرب، وقد انقلبتا ضده. وبتنحية نظريات المؤامرة جانباً، مع ذلك، ما من شك في أن نهج الغرب القائم عدم التدخل قد أفاد “داعش”، وبالرغم من أن هناك بعض الانتقادات لهذا النهج، فإنه كان الشيء الصحيح الذي عمل على ضوء تاريخ التدخلات الأجنبية السابقة، سواء في العراق أو أفغانستان أو حتى ليبيا. ويستحق الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أن يعزى له الفضل في الصمود أمام ضغوط الصقور في أميركا –بما في ذلك من داخل إدارته الخاصة- وضغوط أوروبا على حد سواء، والذين لم يستقوا أي دروس من الماضين وكانوا يدفعون باتجاه تدخل أكثر فاعلية.
لذلك، وربما للمرة الأولى، نجد العالم الإسلامي الذي يعول تاريخياً بشكل كبير على الغرب وهو يعتمد عملياً على نفسه. وستظهر كيفية تعامله مع هذا التحدي ما إذا سيكون قادراً على الوقوف على قدميه. أما البلدان الكبيران في المنطقة، واللذان يمثلان الانقسام الشيعي- السني العميق، فهما العربية لسعودية وإيران، وهو ما يتطلب قدراً كبيراً من قيادة الدولة والرؤية لدى كلا الجانبين لنزع فتيل هذه الأزمة وكسرها. وبينهما يستطيعان إثبات أن أطروحة سلبورن صحيحة، أو إثبات أنها غير صحيحة. فكيف سيكون الأمر؟
الغد الأردنية