لم يكن الفاروقي من جيل إبراهيم أبي لغد وشفيق الحوت وفاروق القدومي وإبراهيم البرغوثي وغيرهم من شباب يافا، الذين تخرج أكثرهم في “سنة النكبة” من المدرسة العامرية الثانوية في يافا التي كان يديرها علي شعث، أو من الذين انتقل بعضهم من مدارس يافا الى الكلية العربية في القدس، أمثال عبد المحسن القطان الذي تتلمذ على يد السكاكيني، وبعضهم الى مدرسة الفرندز في رام الله كما فعل هشام شرابي، هؤلاء الشباب اليافاويون في ذلك الوقت كان أكثرهم من مواليد أواخر العشرينيات، وبعضهم أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي. بل كان الفاروقي يكبر هذا الجيل بعشر سنوات، تكفي لأن تكون سببا في زيادة وعيه عمن سبق ذكرهم من الذين اشتهروا كثيرا في الحياة السياسية الفلسطينية من شريحة المثقفين الذين تبعهم فيما بعد إدوارد سعيد، الذي كان يصغرهم بحوالي عشر سنوات، لكنه أصبح فيما بعد مع فؤاد المغربي من أكثر الناس التصاقا بأبي لغد. في سنة 1941 تخرج الفاروقي من كلية الآداب بالجامعة الأمريكية في بيروت التي كان أكثر طلابها من الفلسطينيين، “بشهادة بكالوريوس فلسفة” قبل ان يكمل الحادية والعشرين من عمره، حيث انه ولد في يافا أوائل سنة 1921 لأسرة عريقة وثرية، في بيت من بيوت المعرفة والثقافة الغنية. فكان أبوه قاضيا شرعيا، فضل لأمر ما ان يلحقه بمدرسة الفرير الفرنسية، لينال شيئا جديدا من المعارف المدنية الحديثة. فور تخرجه من الجامعة كانت الكثير من الوظائف الحكومية في ظل الانتداب البرطاني في انتظاره بسب قلة خريجي الجامعات آنذاك، فاختار منها ما يلبي طموحه، ثم عصفت الأحداث المجنونة بيافا فاختار ان يشارك فيما أمكنه من عمليات جهادية قبل ان تسقط يافا ويرتحل مثل أكثرية أبناء مدينته الى شتات الأرض ليكون نصيبه الاغتراب الى الولايات المتحدة، وهناك اقبل على التعليم فحصل سنة 1951 على ماجستير الفلسفة، ثم حصل على شهادة الدكتوراه عن أطروحة “نظرية الخير” في جوانبها الميتافيزيقية والإبستمولوجية للقيم” عام 1952 . ورغم هذا التحصيل العلمي العالي، استشعر الفاروقي نقصا في تكوينه المعرفي بسبب اقتصاره حتى ذلك العهد على الاطلاع والتعمق في الثقافة والفكر الغربي، حيث نهل من رافد معرفي وحيد وهو الرافد الغربي. لذلك قرر الإقبال على الدراسات الإسلامية حتى يستكمل تكوينه العلمي والمعرفي، فتوجه الى مصر وأمضى بها اربع سنوات، تفرغ بعدها لدراسة العلوم الشرعية من مصادرها الأصلية في الأزهر الشريف. وقد برهن على عميق فهمه للتراث المعرفي الإسلامي حين وقع اختياره على فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية لتكون مرجعية عظيمة له فيما يستشكل عليه من أمور فكرية، وخاصة بما يطرحه عليه المسشرقون في الغرب بشأن الإسلام، حيث وجد مادة التفوق على فلاسفة الغرب جاهزة في يديه وسلاحا قويا لا يُهزم أبدا. وفي القاهرة تأثر الفاروقي وهو في الثلاثينات من عمره بالفكر الناصري حين آمن لبعض الوقت بفكرة العروبة، التي رأى فيه جذورا إسلامية من حيث ان العرب كان لهم الفضل الأكبر بشرف تبليغ الدين الخاتم، بخلاف مفهوم القومية العربية الذي هو نتاج واقتباس عن التجربة الحضارية الغربية التي لا تعطي معتنقيها تميزا وتفوقا لافتا على غيرهم من الأمم الأخرى وفلسفات هذه الأمم. إذن لعلها، تلك هي المرحلة التي انتقل فيها الفاروقي الى الفكر الإسلامي الأسمى وخاصة بعد نكسة 1967 وما صاحبها من إخفاق سياسي. فالفاروقي المصدوم دوما بنكبة 1948 وهو في السابعة والعشرين من عمره، لم يكن ليحتمل نكسة أخرى في 1967.
فحين تمسك المفكرون المتحمسون للقضية الفلسطينية من مثقفي السياسات الغربية، لنظرية أن حربهم مع عدوهم هي حرب سياسية، وتقاربوا مع محمد حسنين هيكل وغيره بعد ان شكلوا رابطة العرب الأمريكيين من خريجي الجامعات الأمريكية واستضافوا هيكل في أمريكا، ثم استضافهم هو لاحقا في القاهرة وصحب ابراهيم أبا لغد في أول مرة الى مقابلة مع ياسر عرفات، انعطف الفاروقي “بعد اكتمال تكوينه المعرفي” نحو المعرفة الإسلامية التي ترى في وحي السماء إكمالا لكل المعارف الإنسانية. وهذا الوحي السماوي ليس له قيمة تذكر في فكر فلاسفة الغرب وطلابهم. وقدم لأمته مؤلفات عظيمة أثنى عليها كثيرا المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري واقتبس منها. ومن هذه المؤلفات، الملل اليهودية المعاصرة، والأطلس التاريخي لديانات العالم، وكتاباته الكثيرة عن اليهود والظاهرة الصهيونية في الدين اليهودي، وفي هذه المؤلفات والكتابات تجاوز الفاروقي السياسي وصولا الى المعرفي في فهم الظواهر المرتبطة باليهود، وهنا يكون قد قدم عنقه للذبح على أيدي يهود، فكان تقطيع جسده في ليلة رمضانية سنة 1986 جزاء له على جرأته الفكرية المعلنة، في جريمة مشهودة لها شبه كبير مع ما حصل لفيلسوف فرنسي جاءه من طلبته اليهود من يكسرون أضلاعه في منزله ردا على أفكاره حيال مزاعم يهودية.
في سيرة الدكتور اسماعيل الفاروقي الكثير من المثيرات والمدهشات، والكثير من محطات الحياة الفلسطينية في المائة سنة الأخيرة، شهد سنوات من دلال يافا وسمع الكثير عن تاريخ هذه المدينة القديم والمعاصر، فسمع عن جريمة نابليون في يافا، وكيف غدر بأهلها وبحاميتها وهو متجه الى عكا، وشهد عمار أسواقها وحركة التجارة في مينائها، شهد عمليات تحميل البرتقال من القوارب الصغيرة على ظهور السفن الكبيرة المتجهة الى أعالي البحار، شهد تطور مدينة يافا قبل ان يكون هناك اي حضور يُذكر لغريمتها تل أبيب فيما بعد. جراحات مدينته قد سكنت قلبه حتى دقاته الأخيرة، وطغت على وجدانه وتفكيره طيلة عمره، فعلى مرمى حجر من يافا شهد الفاروقي تأسيس مطار اللد، وشهد محطات القطار التي تأتي بالركاب من بيروت وحيفا، وشهد الركاب الذين ينطلقون من يافا الى القاهرة، وخاصة من ابناء جيله الذين كانوا يدرسون في الأزهر الشريف. هذه المشاهد جعلت من حسرة أبناء فلسطين والعروبة عامة ويافا خاصة ما يستحيل نسيانه أبدا قطعيا. من المؤكد بأن الصور السابقة قد رسخت في نفسه حتمية الثأر، وضرورة التفوق، فجعلت منه الإنسان الذي لا يتوقف عن التفكير، إنه يشبه كثيرا مفكر الجزائر الكبير مالك بن نبي، اللذين اجتمعا في مصر في خمسينيات القرن الماضي، أحدهما لاجئ وطالب علم يستزيد علوما شرعية، والآخر لاجئ من بطش الفرنسيين يفيض علما على كل مجتمع يحل فيه. لذلك عده العارفون بأنه امتداد لابن خلدون الذي نبه الى مشكلات الحضارة، والبعض يعتبرونه بأنه أول من حاول تحديد أبعاد المشكلة الحضارية وتحديد عناصر الإصلاح الأساسية، وأول من أودع منهجا محددا في بحث مشاكل المسلمين على أساس علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ. كان والد ابن نبي موظفا بالقضاء الإسلامي فأفاض على ابنه من علوم الشرع كما افاضها والد الفاروقي القاضي الشرعي على ابنه اسماعيل. نبت ابن نبي في الجزائر عندما كانت تحكمها فرنسا ونبت الفاروقي في فلسطين وهي تحت الانتداب البريطاني، فكلاهما دخل في وعيه كيف نتسلح بالفكر لوجوب التعلم ثم لمواجهة المحتلين. سبق ابن نبي الى تحديد مشكلات العلماء في التعامل مع إشكاليات الحضارة، وسبق الفاروقي في إرساء قواعد أسلمة المعارف وما يلحق بها من آداب وربما فنون ايضا.
في امريكا عمل الفاروقي أستاذا في مقارنة الأديان كما عمل ادوارد سعيد أستاذا للأدب المقارن. اختلف ادوارد سعيد مع البيئة الأمركية من حوله ومع طلابه ايضا لأنه انحاز في تفكيره الى الشرق عامة والى قضية فلسطين خاصة، ووقف بقوة ضد المستشرقين، لأنه أدرك خُبث نواياهم وكذب استنتاجاتهم، ومثله في ذلك البرفسور وائل حلاق الذي ولد في حيفا لأسرة مسيحية بعد 7 سنوات من نكبة فلسطين وشهد هيمنة اليهود على العرب المسلمين والمسيحيين في حيفا. بعد حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة واشنطن التحق بمعهد الدراسات الإسلامية بجامعة مكغيل، عمل بعدها أستاذا مساعدا بالقانون الإسلامي. اختلفت نظرة حلاق الى المستشرقين عن نظرة إدوارد سعيد الذي نظر اليهم كمشروع سياسي مضاد لأفكاره، حلاق نظر إليهم كباحثين لو أخلصوا وصدقوا في ابحاثهم فلن يكونوا في صف مناصرة أكاذيب الغرب، لأنه نظر الى الاستشراق على انه بنية معرفية عميقة تجذرت وفرخت ظاهريا معايير لها ونتائج من دعوات التنوير كما يدعون. ولهذا رأى البعض بأن حلاق هو امتداد متطور ومتفوق على فكر ادوارد سعيد لأنه أدخل الدين في تفكيره، اي انه استنار بوحي السماء، لقد كان حجم الخلاف بين تفكير الفاروقي وتفكير مناوئيه أعمق كثيرا من خلاف إدوارد سعيد مع منافسيه من فلاسفة وأدباء الغرب وخاصة الفلاسفة والأدباء اليهود، فالخلاف الأدبي له حدود وله بعض القواسم في النهاية، وأما الخلاف العقائدي فليس له مصالحات. ففي الخلاف الأدبي قد يكون تحري الصدق والصحة والحقيقة أو المجاوزة عن هذا التحري، وذلك لأن الأدب يكتفي في كثير من الحالات الجدلية بالمشهور المتداول من المعارف التاريخية، أو بالصور الذهنية للجماعة البشرية عن هذا الكون وأحداثه. وأما في الخلاف الفكري الديني فليس هناك أمكانية للسكوت. وهذا ما دفع الفاروقي الى طرح الرؤية الإسلامية كاملة، وهذا ما دفع خصومه الى قتله.
في مئوية شيخ المفكرين الدكتور اسماعيل الفاروقي.. مشكاة يافا وكوكب فلسطين الساطع بقلم: نصار يقين
