التاسعة والنصف مساء في القاهرة، وأصوات الانفجارات المتقطعة تأتينا من خلال نافذة غرفة المعيشة. يستطيع معظم الناس التعرف إليها، لكنني لا أستطيع ذلك بعد. ربما تكون أصوات أعيرة نارية، أو غازاً مسيلاً للدموع -أو ألعاباً نارية. وتعني الألعاب النارية أن هناك أناساً يحتفلون بزفاف، أو يقاتلون الشرطة، أو يطلقون الألعاب من أجل التسلية. ولذلك، أستمر في العمل الذي أعكف عليه: كتابة رسالة قد تتمكن شقيقة شاب سجين من تسليمها له عندما تزوره غداً. وهي في الحقيقة رسالة مواساة وحسب، لتذكيره بأنه غير منسي وبأن العديد منا في الخارج قد جعلوا من الإفراج عنه وعن الكثيرين من أمثاله مهمتهم وشغلهم الشاغل.
منذ 30 حزيران (يونيو)، اعتقلت السلطات المصرية نحو 40.000 شخص، ما يزال منهم 16.000 قابعين في السجن. وربما تكون الأغلبية منهم منتمية لحركة الإخوان المسلمين المحظورة راهناً، وبينهم ممن لا بد وأن يكونوا قد ارتكبوا أعمال عنف، بينما لم يرتكب المعظم مثل هذه الأعمال. وتقسم البقية، ربما 8000 أو 9000 بين ناشطين ثوريين، ومتفرجين اعتقلتهم الشرطة حين وقعوا في كمائن نصبتها الشرطة واستخدمتهم لتحقيق الأرقام المطلوبة.
تستخدم الدولة كل مورد متاح من أجل تأسيس وتأكيد سيطرتها على البلد. وحتى المؤسسات التي كانت قد قامت بانتفاضاتها الخاصة خلال أيام مبارك -مثل جهاز القضاء والجامعات والإعلام على سبيل المثال- سارعت للانضمام إلى الجمع. وليس الأمر أنها تتبع خط الحكومة تماماً، وإنما الأقرب أنها قرنت مصالحها الخاصة بهدف عودة “الاستقرار” وضد “التغيير الثوري”.
لعل التجسيد الصادم لتلاقي المصالح يتجلى في الكيفية التي يعمل من خلالها القضاة والمدعون العامون بلا انقطاع مع وزارة الداخلية. فالشرطة تجر الناس إلى المعتقل، ويوجه الادعاء العام التهم من قائمة نشاطات “هدامة” أصبحت مشهورة حالياً، فيقوم القضاة بإصدار أوامرهم بالحبس الاحتياطي وبتأجيل محاكمات المعتقلين شهراً بعد آخر، ثم يصدرون أحكاماً سخيفة وغير عادلة بشكل جلي وواضح.
تجدر ملاحظة أن معظم السجناء هم من الشباب. وثمة ما يقدر بحوالي 1000 من القصر، عبر تسع محافظات، قيد السجن. وهناك ما يقدر بحوالي 2000 طالب. ولكل قضية شخصيتها وعبثيتها وما يكسر القلب فيها. وهي تضيف مجتمعة إلى حرب تُشن على الشباب.
في بلد 50 % من مواطنيه تحت سن 25 عاماً، يكون الوصاة على الدولة خائفين من الشباب. وقد أمضوا فترة الصيف وهم يستعيدون المكاسب السياسية التي كسبتها الجامعات من ثورة العام 2011. وعندما عاد الأولاد إلى بوابات الجامعات في اليوم الأول من الفصل الدراسي، وجدوا شركات أمنية خاصة تحقق معهم وتصدر تعليقات على ملابسهم وتصادر أدوات التجميل من الشابات. وعند فجر ذلك اليوم نفسه، اعتقلت الشرطة 47 طالباً.
كل هذا يتم باسم الحرب على الإرهاب. صحيح أن الإرهاب موجود في مصر. فقد انفجرت مؤخراً عبوة ناسفة بدائية الصنع بمحاذاة حاجز المحكمة العليا في وسط البلد في القاهرة، والتي أسفر انفجارها عن إصابة 12 شخصاً بجروح. وفي اليوم التالي، انفجرت عبوتان في طنطا -أكبر مدينة إقليمية في الدلتا- في قلب الاحتفال بمهرجان سنوي، مما أفضى إلى جرح 11 شخصاً. ولاحقاً في تلك الليلة، انفجرت عبوتان ناسفتان بدائيتان في العريش، في سيناء، مما أفضى إلى مقتل ثلاثة جنود وجرح تسعة آخرين.
يذكر مؤشر الديمقراطية الذي يتخذ من القاهرة مركزاً له أنه تم خلال شهر أيلول (سبتمبر) الماضي تنفيذ 32 عملية تفجير باستخدام العبوات البدائية الصنع. وقد امتصصنا نحن المواطنين هذه العمليات إلى “حياتنا الاعتيادية” على طول الخط مع انقطاع التيار الكهربائي وأخبار اختطاف الأولاد واحتجازهم كرهائن، واندلاع معارك بالأسلحة النارية بين قرى بأكملها، وارتفاع الأسعار، وارتفاع في حالات الانتحار وزيادة في حوادث الطرق، وهكذا دواليك.
في الأثناء، تتجاهل الحكومة كل إشارات الاستياء والامتعاض والانهيار، وتركز على حربها غير الناجحة إلى حد كبير على الإرهاب، بغية التضييق على الحريات العامة ونزع الشرعية عن المطالب. والشعار هو “انظر من حولك وكن ممتناً لأن مصر ليست سورية/ العراق/ ليبيا”.
لعل الخطأ المركزي الذي ارتكبته حكومة الإخوان المسلمين التي ترأسها محمد مرسي هو أنها حاولت التصرف وكأنها ورثت مبدأ مبارك للوصاية والقمع -وإنما بوجود منتفعيها وضحاياها الخاصين. لكنها اتخذت الحلفاء الخطأ وأساءت تقدير قوتها والمزاج الشعبي. والآن، أصبح البلد يعرف في قلبه، وقد قبل لهذه اللحظة، بأنه قد عاد وراء إلى حقبة المزاج الأوتوقراطي. والسيد عبد الفتاح السيسي منتخب، وهو ما يزال رئيساً شعبياً، ويبدو أن الصفة المعتادة قد أبرمت: سوف نتخلى عن حريتنا في مقابل الأمن ولنجعل الاقتصاد يمضي. وما يزال الشعار الكبير للثورة “الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية” يخبو تدريجياً حتى يقتصر على أن يصبح المرء ممتناً لمجرد الحصول على كسرة خبز وركن هادئ.
وإذن، لماذا الإصرار ثقيل اليد على التخلص من كل قطعة من الطاقة المستقلة؟ ولماذا تشن الحرب على الشباب؟ ولماذا الحرب المهددة على تنظيمات المجتمع المدني التي كانت بمثابة الأصل والفروع وسور الثورة؟ لقد منحتها الحكومة مهلة حتى 10 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل للقبول بالإشراف الأمني على نشاطاتها أو اعتبارها خارجة على القانون.
يريد النظام كلا الأمرين معاً. إنه لا يستطيع التنصل من ثورة 25 كانون الثاني (يناير) مباشرة، وإلا فإنه سيجد نفسه وقد أعاد مبارك وشركاءه للرئاسة. لكنه يبغض كل شيء وكل شخص يتعامل مع ثورة 25 كانون الثاني (يناير) بنية الانتقام. وعليه، وبينما يحاول خطابه الرسمي أن يوائم بين 25 كانون الثاني و30 حزيران (يونيو)، يقوم النظام بملاحقة واضطهاد كل شخصيات 25 يناير ويسحب كل مكاسب الثورة باسم الاستقرار والأمن والدولة القوية. وفي كل مرة ينقشع فيها الدخان، فإن كل ما نستطيع رؤيته من الدولة هو المزيد من الدبابات في الشوارع والمزيد من تحشيد الجيش والمزيد من لوحات الإعلانات التي تعلن عن شركات أمنية.
لقد شاخ نظام مبارك وسمن وأصبح منصاعاً. وفي أعوامه الأخيرة، لم يبد أنه كان يعبأ كثيراً بما يقوله الناس أو يفعلوه طالما بقيت مصالحه التجارية لا تمس. ولكن النظام الذي لدينا الآن أكثر حساسية بكثير. إنه ليس قانعاً بالبدء في مشاريع ضخمة ومثيرة للشك وتمرير قوانين غير دستورية من أجل حمايتها؛ ويجب حماية دولته من الإرهاب ومن المؤامرات المتجمعة، وإنماً وأيضاً من المحاولات الرامية إلى تشويه صورته، من الفكاهات، وعدم التوقير واللغة الجريئة؛ من الطلبة، والفنانين والنقابات العمالية والرسوم الغرافيتية ومشجعي كرة القدم والصحفيين والمصورين الصحفيين.
يحتاج النظام إلى الحماية من أن يتم في أي وقت استدعاؤه لمساءلته عن الجرائم التي يرتكبها في حق شعبه.
الغد الاردنية