فيما يلي، يقدم الكاتب جيم مايلز قراءته في الكتاب الصادر حديثاً: “فكرة إسرائيل: تاريخ للقوة والمعرفة” من تأليف المؤرخ إيلان بابيه، والصادر عن فيرسو/ نيو ليفت بوكس، لندن، 2014.
* * *
نحن أمام عمل محرك، مقلق للأفكار السائدة ومكتوب بقوة، والذي يروي قصة إسرائيل من منظور الكيفية التي يتم بها تغيير الأفكار والتلاعب بها لمصلحة الدولة. ولعل من سوء الحظ أن تكون غالبية مواطني معظم بلدان العالم معرضة لجهود تكوين الأفكار/ الأيديولوجيا التي يصنعها تيار الفكر السياسي السائد، وتعتمدها وتروجها الصحافة السائدة. وفي حالة إسرائيل، فإن رسمها لصورتها وصناعتها للفكرة، وسردها وأيديولوجيتها، تشكل كلها أهمية قصوى لبقاء الدولة، إلى جانب قوتها العسكرية واندماجها الناجح نسبياً في العالم المعولم الذي تحكمه الشركات.
لمدة عقد وجيز هو عقد التسعينيات بشكل عام، تعرضت الرواية الإسرائيلية وأفكارها التأسيسية إلى الطعن والتحدي من جهة مجموعة صغيرة من الأكاديميين المعروفين باسم “المؤرخين الجدد.” وبطريقة واقعية قائمة على الحقائق، قام هؤلاء بجلب الكثير من تفاصيل قصة إسرائيل الخفية إلى الواجهة –مستخدمين محفوظات جيش الدفاع الإسرائيلي التي تم الإفراج عنها وأصبحت متاحة للعموم– وعلى نحو ناقض الرواية التي تفضلها الحكومة الإسرائيلية ومؤيدوها.
بذلك، نجح هؤلاء المؤرخون في فتح حوار حول نكبة العام 1948/ أو حرب الاستقلال، وخطط الاستيطان لما بعد العام 1967، ووفروا معرفة بما يتعلق بهذين التاريخين من عمليات الطرد والتهجير والمذابح والتطهير العرقي. لكن ذلك النجاح أنجز وصولاً محدوداً في داخل إسرائيل، نظراً لحقيقة أن المؤرخين الجدد كانوا أقلية أكاديمية، ولم يكن هناك أي مجال لإحراز نجاح حقيقي سوى في العروض التقديمية النادرة –المنصبات والمسرح والأفلام بشكل خاص. وقد صنع عمل هؤلاء المؤرخين قدراً كبيراً من التحريك في الخارج، لكن السمة الرئيسية لردة الفعل في الدول الأخرى -مرة أخرى باستثناء بعض الأكاديميين الصاخبين- كانت قدراً كبيراً من اللامبالاة وعدم الاهتمام، وهو ما استغله دعم إعلام تسيطر عليه الشركات –مرة أخرى العالم المعولم المحكوم بالشركات.
النكبة، 1948
هذه هي القصة التي يتم تطويرها في داخل كتاب إيلان بابيه الأحدث “فكرة إسرائيل.” وفيه يتعقب إيلان بابيه الخط الزمني التاريخي في داخل هذه المواجهة الفكرية، بدءاً من نكبة العام 1948 ومنظورها “التقليدي” قبل قدوم حقبة المؤرخين الجدد.
وفق هذا المنظور الأصلي، أصبحت فكرة “أرض بلا شعب” تشكل إهانة للصهاينة، بسبب حقيقة وجود الفلسطينيين نفسها. وقد تضمن الصراع المادي بين الفلسطينيين والصهاينة، والذي جرى الحط من قدر الفلسطينيين فيه بعدما تم الاعتراف بوجودهم أصلاً، باعتبارهم أناساً بدائيين ومتخلفين، ويتطلبون “التحديث”. وقد شكلت مقاومتهم مفاجأة، مع صعودهم لسبب غير معروف “من العدم” وباعتبارهم “معادلاً للإرهاب.”
بما أن هذا الخطاب كُتب بأيدي الإسرائيليين، فإنه “تم تعريف العنف غير المفسر أكاديمياً على أنه خصيصة أساسية للثقافة والحياة العربيتين.” وتصور الخطاب أن العنف كما تم تصويره في السينما “لا يحتاج إلى تفسيره. وإنما وصفه فحسب،” في “غياب تفسير منطقي” سوى كونه “عداءاً قاسياً وبلا معنى.” كان التمثيل السينمائي الصهيوني للصراع مع الفلسطينيين “مزيجاً من عقدة تفوق عنصرية منضفرة بكراهية مرَضية تجاههم.”
في البداية، تولى تمثيل الحركة ما بعد الصهيونية أكاديمون يشعرون بـ”اشمئزار من السلوك البغيض الذي يمارسه الإسرائيليون تجاه الفلسطينيين” و”الرفض الفكري لتناقضات وغرائبيات الدوغما الأيديولوجية.” وخلال السعبينيات والثمانينيات، ظهرت التيارات التحتية من النقد، والتي “عرت بعض (البديهيات) الصهيونية باعتبارها موضع شك في أحسن الأحوال، وباعتبارها مغالطات في أسوئها… وأصبح واضحاً… أن المجتمع كان مثقلاً بالتوترات التي تعصف به بين الجماعات الثقافية والعرقية المختلفة، وكان ملتصقاً ببعضه البعض بشكل غير مستقر فقط بفعل الافتقار إلى السلام والشعور المستمر بالأزمة.”
ناقش المؤرخون الجدد الكثير من الأساطير التي تتعلق بنكبة العام 1948. وناقش بابيه خطة الأمم المتحدة للتقسيم، وافتقار المفتي الحسيني للشعبية، ورغبة العالم العربي في تدمير إسرائيل (على الرغم من أن اتفاق اليهود السري مع أحد الكيانات العربية يناقض ذلك)، وكذلك مسألة النزوح باعتبار أن الفلسطينيين أمروا بالمغادرة أكثر من كونهم أجبروا عليها، وناقش فكرة داود الإسرائيلي في مقابل جوليات العربي، والرفض الإسرائيلي المستمر لهبة السلام. وفي وقت لاحق، جرى تنشيط هذه الأفكار بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والافتقار إلى إحراز النجاح في كامب ديفيد، وأحداث 11/9 والمسجد الأقصى. وتمت إعادة إنعاشها بخطاب الصهاينة الجدد حول التاريخ الإسرائيلي.
ما بعد الصهيونية
لكن بابيه يتناول، قبل الوصول إلى هناك، جوانب مختلفة لعروض المؤرخين الجدد وأتباع ما بعد الصهيونية في التسعينيات. كان ذلك “عقداً تم فيه التشكيك بكامل فكرة إسرائيل واستنطاقها،” والذي كان بمثابة “مساحة مريحة لقياس المسافة التي قطعها أولئك المفكرون في رحلة خروجهم من المعسكر الصهيوني” لكنهم كانوا مع ذلك “ما يزالون قريبين بما يكفي من الحيز القبَلي بحيث يعودون إلى حضنه الدافئ.” كان ذلك من وجهة نظر بابيه هو “النتيجة الوحيدة الإيجابية للحدثين الكبيرين: (الانتفاضة، وأوسلو).”
غطت مواضع المناقشة التي أجراها بابيه التاريخ الواضح، لكنها غطت أيضاً الحقائق الاقتصادية، وتأثير النزعة القومية والعلاقة بالأساطير الإنجيلية، والمستوطنين، والمنفى، والاشتراكية والتمايزات الطبقية، والنزعة العسكرية، والكولونيالية، والنسوية والجندر باعتبارها المسائل “الأكثر تأثيراً.”
كان العنوان التالي الذي تناوله بابيه هو المحرقة “الهولوكوست” وأساطيرها، حيث أن الإسرائيليين “أتقنوا حد الكمال أساليب الاستغلال والتلاعب بهذا الموضوع كأداة دبلوماسية في صراعهم ضد الفلسطينيين”، وهو النهج الذي كان “مجمعاً عليه وواسع الانتشار.” وقد أسماه منتقدو فكرة المحرقة “الهوس المفرط والتعسفي بالقيم الاخلاقية والأحكام المنحرفة.” وقد “منعهم ذلك من رؤية الفلسطينيين في ضوء أكثر واقعية، وأعاق التوصل إلى حل سياسي معقول للصراع العربي-الإسرائيلي.”
ضمن هذا السياق، يدرس بابيه التعاطف اليهودي المبكر مع النازيين (المعاداة للبريطانيين، الطرد من ألمانيا باعتباره خيراً، وإنكار الشتات). وهو يرى أنه تم تقديم انتفاضة وارسو على أنها حدث يهودي مميز، وليس باعتبارها مجرد واحدة من ردود الفعل العديدة على معرفة المرء بموته الوشيك في نهاية المطاف على أيدي النازيين. وقد كانت هذه الاتجاهات، وما تزال، تشكل جزءاً من “بناء سرد انتقائي قام بتكييف تاريخ الهولوكوست ليناسب متطلبات إسرائيل الاستراتيجية والأيديولوجية،” بواسطة وضع نموذج اليهودي الشجاع في مقابل اليهودي السلبي، وتأميم التمرد باعتباره “جزءاً من تاريخ الإبادة الجماعية الحديثة،” حيث لا يطابق الناجون قالب اليهودي الصلب، والذين أراد معظهم الهجرة إلى المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل. وأخيراً، يعمد السرد إلى إضفاء صفة العالمية على الإبادة الجماعية لغاية ترويج القبول بكل الإبادات الجماعية أينما كانت.
ثمة مكمن قلق آخر واجه أتباع ما بعد الصهيونية، هو وجود اليهود العرب. وكما ذكر أعلاه، فإن معظم المهاجرين العرب أرادوا الهجرة إلى المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، وليس إلى إسرائيل. إنهم لم يروا نفسهم كمقيمين في الدولة، ولا أرادوا أن يستعمروا البلد، وإنما ظلوا يحتفظون بمشاعرهم الوطنية لبلادهم الأصلية، وكان يتم استخدامهم كعمالة رخيصة وكدعم لـ”المشكلة الديمغرافية.” وعنى ذلك أن “حياة المرء كيهودي عربي في المجتمعات الإسلامية كانت حياة كرامة وتعايش.” وهم يستمرون إلى هذا اليوم “في تشكيل نفس النوع من التحدي والبديل لفكرة إسرائيل كما تعرضها المؤسسة، وكما تفهمها الغالبية العظمى من اليهود داخل الدولة.”
أعطى بابيه لمسألة الإعلام فصلين منفصلين بشكل أساسي ككلام مكتوب وكلام منطوق. وبسبب القيود المفروضة ذاتياً، و”الاعتبارات الأمنية” المقرونة نهج توافقي، فإن الصحافة “لم تفترق عن الإجماع الصهيوني.” كانت وسائل الإعلام ليبرالية، وإنما لم تكن غير وطنية، ولم تنقب في ماضي إسرائيل ما قبل 1967 ولا في نكبة 1948.
بينما تم بذل بعض الجهود المخصوصة من أجل الكشف عن الطبيعة الحقيقية للمجتمع الإسرائيلي، فإن استنتاج بابيه هو أنه “لم يكن هناك أي تأثير سياسي” لهذه الجهود بشكل عام. وفي بضعة أفلام، كان هناك “توتر قائم بين الانصياع والنقد،” والذي عرض حقيقة أمة “غير مستقرة ولا آمنة، بما أن الدولة والمجتمع فشلا في التصالح مع الناس الذين قاموا بطردهم، وأخذوا أرضهم، ودمروا ثقافتهم.”
الصهيونية الجديدة
أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في الصهيونية الجديدة New Zionism هي أنها لم تنكر “الحقائق” كما تكشفت من خلال أرشيفات جيش الدفاع الإسرائيلي والوثائق الحكومية، لكنها دمجتها وأدرجتها في عقيدة جديدة. إنها “نسخة مفرطة القومية، والعنصرية والدوغمائية من القيم الصهيونية، والتي تعلو على كل شيء آخر في المجتمع، وحيث يُعتبر أي تحد لذلك التأويل لفكرة إسرائيل فعلاً غير وطني، بل وخيانياً في واقع الأمر.”
جرى اعتبار ما بعد الصهونية “أسلوباً ونظرية مفسدين”، وتم “إسكاتها وسحقها بالتدريج،” على نحو سمح للصهاينة التقليديين بـ”إعادة تأكيد تأويلهم لكتابة التاريخ.” وكانت نقاط التحول، كما تمت الإشارة سابقاً، هي الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والافتقار إلى النجاح في كامب ديفيد، ثم أحداث 11/9 والمسجد الأقصى.
تتكون العقيدة الإسرائيلية السائدة من وحدة دينية وقومية على حد سواء. وهي تغطي صناعة الفكرة في داخل السياسة، والدين والتعليم، حيث يتمتع التعليم بأهمية خاصة بسبب دوره في عسكرة المجتمع (مدرسة جيش الدفاع الإسرائيلي الابتدائية). كما يلعب التعليم دوراً أيضاً في خلق منظور عنصري، انعزالي، متمركز عرقياً، و”خوف معمم من الآخر”. وضمن هذا المنظور، يصبح الفصل العنصري نفسه فعلاً قانونياً، ويتصل خطابه بالقلق الصهيوني الحاضر دائماً إزاء الديمغرافيا. وبهذا يصبح الفلسطينيون غير مرئيين، ثقافياً وجغرافياً.
يعيد بابيه زيارة نكبة العام 1948، حيث يقبل الصهاينة الجدد “الحقائق” التي تفسر النكبة ضمن نموذج جديد. وفيه تترافق ثيمات المتقاتلين المتساوين (كما في العام 1948) ودور الضحية (الهولوكوست، حرب 1967) مع “وعد مقدس” بـ”البقاء الوجودي”. ويتم تقديم التبرير للتطهير العرقي بينما “يقترب الدفاع الأخلاقي عن الحرب من المستويات الأسطورية المسيحانية.” ويجري وصف الحرب بمصطلحات “الحرب العادلة”، “الفداء”، “طهارة السلاح،” و”المبرر الأبدي”، وهي تبريرات لا تدافع بالكامل عن السلوكيات التي تم تصنيفها حديثاً من الناحية الإنسانية بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
في الوقت الراهن، تسجل الحرب الإعلامية نجاحاً في داخل إسرائيل، فقد انسحب الأكاديميون وتراجعوا إلى الراحة والاسترخاء مع عقيدتهم القومية/ الدينية من الصهيونية الجديدة. وفي خارج إسرائيل، هناك إدراك قائم لحقيقة أن “الحقائق” مقلقة بعض الشيء، ولا تمكن مواجهتها بالحجة. وبذلك يكون الرد في شكل حملة علاقات عامة تهدف إلى بيع إسرائيل وتسويقها على أنها “فردوس على الأرض… جمال، ومرح، وإنجاز تقني.” لكن نجاح الحملة يتقوض إلى حد كبير نتيجة للوعي بالتصرفات الإسرائيلية الحالية، بعنف عدوانها على غزة ولبنان، وطبيعة نظامها القائم على الفصل العنصري المتمثل في احتواء/ سجن الفلسطينيين.
يظل كتاب “فكرة إسرائيل” عملاً معقداً، وربما يكون من الصعب قراءته من دون الاستعانة ببعض المراجع التاريخية الأخرى فيما يخص “الحقائق.” وفي هذا السياق، يقدم كتابا إيلان بابيه الرئيسيان الآخران “التطهير العرقي لفلسطين” (2007)، و”تاريخ فلسطين الحديثة –أرض واحدة، شعبان” (2006)، ذلك التاريخ المطلوب. وبالنظر إلى طبيعة الموضوع، فإن قراءة لتاريخ إسرائيل من منظور إسرائيل ستخدم بنفس المقدار أيضاً، حيث ستضع المنظور الإسرائيلي في موضع المقارنة والتناقض مع نقد بابيه الما-بعد-صهيوني، والأفكار المطروحة في هذا العمل المدروس والشامل.
الغد الأردنية