ترجمة سوسن كردوش – قسيس، دار سند، رام الله، 2018.
الكتاب هو عمل قام به الكاتب الدنماركي ثوركيلد هانسن، وصدر بلغته في 1962. وهو نفسه الكاتب الذي تطرق إلى العالم العربي قبل ذلك في 1959 بكتابه “يوميات رحلة”.
ثوركيلد نفسه كان رحالة معاصر. أحب السفر والاستكشاف. عمله “العربية السعيدة” مؤسّس على ما دونه أحد أعضاء البعثة الدنماركية التي ارسلها الملك الدنماركي فريدريك الخامس في 1761 لاستشكاف الشرق. واستغرقت سبع سنين ولفتت انتباه اوروبا. وكان الفلكي كارستن نيبور هو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من رحلة البعثة هذه.
فهانسن اعتمد على ما دونه نيبور في مدونته عن الرحلة. واستفاد هانسن من تعرف على العالم العربي في مجالات التاريخ والتنقيبات الأثرية في مصر وسيناء. فدمج في كتابه بين نصّه الروائي وبين ما اوردته المدونة المشار إليها أعلاه.
والاسلوب التوثيقي في هذا الكتاب ظاهر وواضح ولا يتنازل عنه هانسن، إلى جانب ما ينقله لنا من مدونة المذكور نيبور.
ويحمل الكتاب الكثير من التفاصيل الجميلة لخمسة اعضاء شاركوا في البعثة الاستشكافية كان ابرزهم نيبور وهو الماني، وفورشكل وهو عالم نبات سويدي وفون هافن عالم لغويات دنمركي ورسام وطبيب. وكانت بينهم خلافات شديدة ونقاشات حادة. وسارت الرحلة الى استنبول ثم الاسكندرية فالسويس وجدة ومكة والمُخا في اليمن وقرى وبلدات في اليمن، ما عدا استثناء له علاقة بسيناء.
كانت هذه أول بعثة ترسلها دولة اوروبية الى شبه جزيرة العرب، وطبعا تبعتها بعثات كثيرة، بما فيها بعثات امريكية، كان ابرزها بعثة لينش في منتصف القرن التاسع عشر والتي جابت مناطق في الجليل وخصوصا شرقه، وبحيرة طبريا ونهر الاردن والاغوار والبحر الميت بطبيعة الحال.
الواقع ان الرحلة ساهمت في التعرف على البيئات النباتية والحيوانية والطيور التي صادفها وبحث عنها اعضاء البعثة وخصوصا فورشكل.. وبخصوص هذا الرجل فإنه نظر الى العرب بنظرتين: الاولى فيها اللطافة والاعتبار.. ولكنه حمل نظرة اخرى فيها التريُّب..
يحاول المؤلف تجاهل الدوافع غير العلمية للبعثة، مع ان اوروبا بأجمعها في ذلك العصر، وليس الدنمارك وحدها – كانت بعثاتها موزعة ومنتشرة في بقاع الارض بحثا عن مناطق نفوذ وثروة. فهذه الرحلات تحمل في نهاية المطاف هدفا سياسيا وتعليمات الملك السويدي تبين وتؤكد ذلك، وإن كانت قشرتها مختلفة. وخصوصا مراقبة عادات وتقاليد البلد على ضوء الكتاب المقدس والشريعة اليهودية. وايضا تسجيل العبادات الوثنية قبل زمن النبي محمد (ص)، وأن عليهم ان ينسخوا المخطوطات ويرسلوا المعلومات الى الدنمارك.
وعلى كل عضو في البعثة أن يكتب مذكرات، وان يتعرف كل واحد بحذر شديد على “المحمديين” واحترام دينهم، وعدم التصرف تجاه نسائهم بحرية كما في اوروبا. وتدوين وضف ما تراه العين بدقة لتكوين تفاصيل وافرة تساعد الباحثين. والبحث بعمق لفهم نبض التفكير وتوجهات الحياة لدى ساكني الصحاري وكيفية التعامل معهم… ووصلت البعثة الى نتيجة أنه لا أثر لبني اسرائيل في الصحراء ما يضحد بعض خرافات توردها التوراة.
وبالرغم من النظرة الفوقية والمتغطرسة التي ميزت نصوص وادبيات الرحلات الاستكشافية الاوروبية والغربية عموما، فإننا نجد أن بعض الاعضاء فيها قد كونوا نظرة ايجابية عن العرب كما هو الحال مع فون هافن بنظرته نحو اليمنيين الذين يحسنون استقبال الاوروبيين… مقابل توجهات ادبية تشير الى اهتمام وتركيز الشرق على الخرافات وتكريس الخداع واللصوصية…
الكاتب ثوركيل هانسن هو روائي في اساسه. وهو نصير مكافحة الاعمال غير الاخلاقية، مثلا هو معارض شديد لتجارة العبيد… ومعارض بقوة للاستعمار بكافة اشكاله. فهو عرف كيف يدمج بين النص الوارد في مدونات البعثة وبين نصه الروائي. على سبيل المثال أبرز بقوة خلافات وجدالات أعضاء البعثة فيما بينهم… لكن هذه الخلافات شكلت مادة خصبة جدا للبحث في اسرار وخفايا الشرق.
وباعتقادي ان هانسن قد أدرك التواريخ الصغيرة اي الجزئيات.. لكنه لم يفضلها على حساب التاريخ الكبير من خلال سردية نقلَ فيها الواقع . وفي الوقت ذاته نظر نحو المستقبل الذي ستستفيد منه الدنمارك غير آبهٍ بافكار وطروحات الاستشراق التي لمعت في سماء اوروبا. بمعنى آخر فإن هانسن ليس مستشرقا، وإنما استخدم مواد كتابية لمن اعتبرهم تعريف “المستشرق أنه مستشرقا… واعني في هذه الحالة نيبور.
ولفهم النصوص التي استخدمها هانسن لا بد لنا من الاستعانة بما وضعه ادوارد سعيد في مؤلفه الفذ “الاستشراق”. بمعنى آخر أود أن افحص على الطريقة المخبرية نصوص البعثة التي اوردها هانسن إلى جانب نصوصه.
يُقدّم لنا سعيد ثلاثة تعريفات لـ “الاستشراق” يعتمد بعضها على بعض:
الأول منها أكاديمي :”فكل من يدرس الشرق أو يكتب عنه او يبحثه سواء في سماته العامة أو الخاصة، فهو مستشرق. وما تفعله هي او يفعله هو، استشراق”.
الثاني: اسلوب من الفكر مستند على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب.
الثالث: اسلوب غربي للسيطرة على الشرق وإعادة هيكلته وامتلاك السلطة عليه”.
وعند معالجته مسألة الاستشراق يُقدّم لنا سعيد قائمة من ثلاثة اصناف للمستشرقين:
أولها: الكاتب الذي ذهب الى الشرق لتزويد الاستشراق المحترف بمادة علمية أو “الذي يعتبر إقامته نوعًا من الملاحظة العلمية”.
الثاني: الكاتب الذي يبدأ بنفس الهدف، لكن اهتماماته الفردية تُسيطر على عمله.
الثالث: الكاتب الذي يرحل الى الشرق لارضاء رغبته، لذا فإنّ نصّه مبني على جماليات شخصية.
ويرى ادوارد سعيد أن الاستشراق قد انتقل من معناه الاكاديمي المحض (كنظام للمعرفة الاوروبية أو الغربية حول الشرق) إلى أن أصبح مرادفا للهيمنة الاوروبية على الشرق، اي اخضاع كل ما يُمكن أن يقولوه أو يكتبوه حول الشرق لرؤيا سياسية محددة اساسها:
أوروبا – “نحن”، الشرق – “هم”.
حيث نقرأ في نصوص الرحالة والمستكشفين والبعثات الخطاب الامبريالي… ووصفهم سعيد بأنهم “وكلاء الامبرياليين”.
وهذا يعني أن الاستشراق انتج وجهة نظر عدائية حول الشرقيين المسلمين والعرب… والصور النمطية عن العرب والمسلمين بكونهم “دون” و”منحطين ومخادعين ولصوص”… وهذا جزء من العداوة بين الغرب والشرق… بمعنى ان العالم مكون من نصفين غير متكافئين: الغرب والشرق”.
اخذتُ ملخص توجهات ورؤى سعيد لفهم مدونة البعثة بعد تخليصها من نصوص هانسن، فينطبق عليها تماما ما اورده سعيد…
فالوصف لمجرى الحياة اليومي في قرى اليمن فيه الكثير من النظرة الفوقية نحو مجتمع متخلف.
لكن، ولننصف عضو البعثة نيبور وأيضًا العضو الاخر فوشكل نقول بأنهما، وخصوصا نيبور قد فهم طبيعة العربي واتخذ من نمطه أُسسا لحياته…لدرجة انه تماهي معها…
قراءة من ص 207، وص 208 الفقرة الاخيرة، وفقرة اولى في 209..
ولانصاف فورشكل: نقرأ فقرة ص 245، وص 247… ونظرته الى الانسان وليس فقط إلى محددات البيان والتوجيات الملكية لدراسة الحيوان والنبات…
وأخيرًا: أعتقد أن هذه الرواية أو النص السردي الذي يدمج بين ما دونه نيبور، وما كتبه معلقا وموسعا هانسن يوفر لنا صورتين: الاولى: تتعلق بطبيعة الاستكشاف الاستشراقي كما فنده ادوارد سعيد… والثاني: ما حاول هانسن تخليصه من هذه النظرة باعتباره مساهمة جليلة في التعرف على حضارات أخرى غير الاوروبية عموما والدنماركية خصوصا…
(قدّم المداخلة في أمسية إشهار الكتاب في نادي حيفا الثقافي حيفا في 11 نيسان 2019)