عندما كتب غسان كنفاني روايته الباقية، ذات العلامة الفارقة، في الذاكرة الفلسطينية، والتي ربما كانت من أسباب اغتياله بسيارة مفخخة في بيروت، في تموز (يوليو) 1972، عن عمر 36 عاما، “رجال في الشمس”، العام 1963، كانت الحبكة تقول إنّ الرجال المختبئين في صهريج متجه بين العراق والكويت، كان يمكن أن ينجوا لو قرعوا الخزّان.
هل خطر ببال غسّان أنّ روايته ستتكرر جوّاً وبرّاً وبحراً حتى بعد ستين سنة من نشرها؟!
كلما قرأت تجسيد الأدباء لمعالم التغريبة الفلسطينية، وجدتهم يضطرون في رواياتهم لتقليل حجم التفاصيل وجعلها أقل صدمة، مع أن الأدب يفترض العكس؛ لكن يبدو أنّهم يخافون اتهامهم بالخيالية (فَصَّلتُ هذه الفكرة فيما كتبتهُ تحت عنوان “سفر الجوع الفلسطيني” في كتاب نجمة كنعان).
بفضل الهواتف النقّالة وشبكات التواصل الاجتماعي، بات بإمكان أولئك الموجودين في الخزّان أن يقرعوه. لقد اتصلوا من قواربهم وهم يغرقون؛ وتناوبوا على الحديث. البحر الأزرق الهائج من حولهم في كل مكان، وهم قُرب مالطا أو غيرها من مدن اللجوء الأوروبي. وهم يصرخون: “كلنا بنموت، إحنا من غزة، كلنا بنموت، محدش سائل فينا”. المحيط الأزرق حولهم. ليسوا إسرائيليين، وليسوا أميركيين، حتى يهبّ العالم لإنقاذهم، وهم يصرخون، يخبرونهم أنّ القارب “بغرق، بغرق، بغرق..”، ثم يختفي الصوت!
هل جربت أن يتصل بك شخص وهو يغرق، ثم يتوقف الصوت؟!
يوم انتشرت حالات تسلل الأفارقة داخل حدود أرض الاحتلال الأول (1948)، قبل سنوات، سأل ابن أحد قادة المقاومة، من كبار الشهداء، ونحن نجلس في شارع الرينبو بعمّان: أيعقل هذا؟ كيف يكون التسلل بهذه السهولة؟ كيف كان الفدائيّون يموتون ليدخلوا؟ السؤال نفسه قد يسأله ابن صيّاد في غزة: لماذا يا والدي يطلقون الرصاص عليك عندما تصل على بعد ثلاثة أميال ويمنعونك من صيد السمك، بينما تصل سفن المهربين إلى مالطا؟ سيرد الأب على الطفل بأنّهم يهربون عبر الأنفاق إلى مصر والاسكندرية وليبيا، وسيبقى الولد يفكر في البحر والنفق وأوروبا، ويسمع في الأخبار والأزقة عن صراع الفصائل.
تواصلت معي، بالبريد الإلكتروني، قبل ثلاثة عشر عاما، فتاة من الناجيات من صبرا وشاتيلا، طلبت المساعدة في الوصول إلى اسكتلندا. لم يكن معي مال لأساعدها، وكنت خائفاً جدّاً من فكرة مساعدة أحد على الهجرة. لم أعرف كيف أساعدها، ولكنها عادت واتصلت وقالت لقد وصلت. أخبرتني أكثر من قصّة؛ فبين مطارين تمزقت حقيبتها الهشّة، وقالوا لها لن تخرجي بملابسك وحاجياتك للطائرة التالية إلا بحقيبة، والحقيبة الممكنة في المطار كلّفت نحو تسعين جنيها استرلينيا من أصل مئة وبعض جنيهات كانت معها. وعند وصول مطار نهاية الرحلة، مزّقت “وثيقة السفر” في المطار؛ هكذا نصحوها. قال لها بعضهم هكذا ستحصلين على حق اللجوء، ولم تحصل رغم الذهاب إلى المحاكم. وعاشت ما بين تمزق وتمزيق.
لا أذكر هل كان الهاربون إلى ما ظنوه الحياة، في صهريج غسّان، ثلاثة أو أربعة، ولكنهم في أحد قوارب الموت كانوا ثلاثمائة، واستنجدوا من دون فائدة. ربما خاف سائق الصهريج من انكشاف أمره، ولم يعتقد أنّ “بضاعته” ستموت. لكن في قوارب 2014، قام المهربون بإغراق القارب، أو رأوها تغرق، وهم يضحكون، هكذا قالت الفئة الناجية.
في روايتها الجديدة “خلسة في كوبنهاجن”، توثّق سامية عيسى قصص اللاجئين إلى الدنمارك والنرويج، وكيف يكتب موظفو الهجرة أنّ على اللاجئين أن يعودوا إلى “ستيتلس” (Stateless)؛ ففلسطين بالنسبة لهم ليست على الخريطة، وليست في السجّلات. كتبت عن كيف حاول اللاجئون في النرويج الذهاب إلى ساحة يحولونها إلى ما يشبه ميدان التحرير، ليسمحوا لهم بالحياة والعمل “محامون، مهندسون، أساتذة ومعلمون، شباب صغار، رجال كبار، أشخاص مقعدون، مبتورو الأرجل، أحدهم بعين واحدة، آخر شوهت النيران وجهه”.. “محامٍ قادم من غزة طلبا للجوء بعدما فقد قدميه حتى مستوى الأفخاذ”، شوهد “في التلفزيون النرويجي يزحف فوق الثلوج التي تغطي ساحة أوسلو وبكى”.
بين رواية وأدب، و”فيسبوك”، وصحيفة، وفصائل متناحرة، “قصة واقع مرّ”، وقرع متواصل للخزّان.
قيام فصيل بإرسال أفراده ومقاتليه لإنقاذ الضحايا، والعمل لمنع تكرار الكارثة “حلم غير واقعي”!
القدس دوت كوم