الناصرة/ تثير دعوة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو قبل يومين وسائل الإعلام في إسرائيل إلى «وقف التركيز الإعلامي المتزايد» على قضية عميل جهاز الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية (موساد) الذي وجد ميتاً في زنزانته في سجن قرب تل أبيب، الاسترالي المولد بن زايغر، أكثر من علامة استفهام عن جدية الادعاء الإسرائيلي بأن الدولة العبرية هي «الديموقراطية الوحيدة في غابة الشرق الأوسط». كما تطرح القضية بمجملها استفسارات كثيرة عن انتهاكات حقوق الإنسان تحت طائل «الدفاع عن أمن إسرائيل»، وعن خرق الإعلام الإسرائيلي «بمحض إرادته» حرية التعبير و «حق الجمهور في المعرفة» تلبيةً لرغبات المؤسسة الحاكمة.
ومنذ إقامة الدولة العبرية، تبنت هذه ما عرف في الغرب بمبدأ «الديموقراطية المدافعة عن نفسها» القاضي بأنه يحق للدولة الديموقراطية أن تتخذ الإجراءات المختلفة لتحمي نفسها. وتستخدم إسرائيل، في سبيل تطبيق هذا المبدأ، جملة أدوات في مقدمها أدوات قانونية، مثل «قانون منع الإرهاب» الذي سنته الكنيست عام 1948، و «القانون الأساسي: الكنيست» الذي يحظر على تنظيمات إرهابية خوض الانتخابات البرلمانية، و «الرقابة العسكرية» المعمول بها وفقاً لأنظمة الطوارئ من العام 1948، أو قوانين تتيح الاعتقالات الإدارية (بلا محاكمة)، ووسائل العقاب المختلفة، مثل هدم بيوت المشبوهين بارتكاب عمليات إرهابية. كما تلجأ إلى وسائل متنوعة لـ «إحباط الإرهاب»، وأساساً وسائل عسكرية واستخباراتية، مثل «أساليب التحقيق» مع موقوفين تشمل تعذيبهم وممارسة ضغوط جسدية ونفسية «مشروعة»، أو «التصفية الجسدية» لمن تعتبرهم «إرهابيين».
لكن معلقين في الشؤون القضائية يرون في «الرقابة الذاتية» لوسائل الإعلام أخطر من الرقابة التي تفرضها المؤسسة العسكرية بموجب «أنظمة الطوارئ»، كونها رقابة طوعية «ربما كان ممكناً تفهمها عند إقامة الدولة العبرية، لكن ليس في عصر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي».
وتشرف على الرقابة الذاتية «لجنة المحررين» التي تضم رؤساء تحرير وسائل الإعلام العبرية، وهي لجنة سعى إلى إقامتها رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول ديفيد بن غوريون لتنظيم علاقات وسائل الإعلام مع المؤسسة الأمنية، أو بكلمات أبسط من أجل نيل موافقة وسائل الإعلام على عدم نشر «أسرار أمنية» أو أخبار «تمس بأمن الدولة».
وجرت العادة على أن تقوم شخصية رفيعة في الحكم أو في الجيش بدعوة محرري الصحف وتبليغهم معلومات معينة، لكن ليس قبل أن يلتزم هؤلاء عدم نشرها، حتى في حال وصلت إليهم من مصدر آخر.
واستغل بن غوريون وخلفاؤه هذه اللجنة على نحو خدم سياستهم، وهو القائل «ندعو السارق (الإعلام) ونجعل منه حارساً (يتكتم على الخبر)». وعلى مدار عقود، أخفت وسائل الإعلام عن قرائها عدداً من الحوادث يذكر الإسرائيليون أكثرها فداحةً عن استعدادات الجيش المصري والسوري بأعداد كبيرة على الحدود مع إسرائيل قبل أيام من حرب 1973 التي تكبدت فيها إسرائيل أكبر عدد من القتلى في الحروب التي خاضتها «بسبب اللامبالاة من الجانبين السياسي والعسكري» بهذه التحضيرات. وفي حينه، أذعنت «لجنة المحررين» لطلب رئيس هيئة أركان الجيش ديفيد أليعازر عدم النشر عن هذه التحضيرات. وبعد الحرب، تعرضت «لجنة المحررين» إلى انتقادات شديدة على موقفها، بداعي أنه كان من شأن النشر أن يثير الرأي العام ضد اللامبالاة الرسمية.
ورغم أن «الرقابة الذاتية» تراجعت منذ تلك الحرب، إلا أنها لم تختفِ تماماً، وواصلت الصحف العبرية التكتم عن عدد من القضايا، وليس أكيداً أن آخرها قضية العميل الاسترالي بن زايغر، ومرة أخرى بداعي أن الكشف عنها في وقتها (قبل أكثر من عامين) «يعرض الأمن القومي الإسرائيلي إلى الخطر»، وفق نتانياهو الذي توجه إلى الإعلام من جديد، حتى بعد الكشف عن القضية، برجاء أن يدع أجهزة الأمن تواصل عملها بهدوء «حتى نستطيع أن نواصل العيش في أمن وطمأنينة في دولة إسرائيل».
ويعتبر معلقون في الشؤون القضائية «الرقابة الذاتية» لوسائل الإعلام «وسيلة أخرى لقمع حرية التعبير» تضاف إلى الوسائل القائمة، المتمثلة بقوانين كولونيالية وأنظمة طوارئ من أيام الانتداب البريطاني على فلسطين وقوانين وأنظمة سنّتها الكنيست خلال السنوات ألأولى لإقامة الدولة العبرية، ووسائل ضغط وتهديد وإكراه أخرى.
ويصف المعلق في الشؤون القضائية في الإذاعة العامة موشيه نغبي سلوك «لجنة المحررين»، بمؤامرة تحيكها «مجموعة النخبة من كبار الصحافيين مع قيادة المؤسسة الحاكمة على حساب حق المواطن في المعرفة». ويضيف أن «الرقابة الذاتية» أخطر من الرقابة العسكرية، إذ بينما يمكن الطعن في قرار سلطة الرقابة العسكرية بمنع النشر، لا يمكن ذلك عندما تكون الرقابة ذاتية وبمحض إرادة أصحاب وسائل الإعلام ومحرريها. وأكثر من ذلك، فإن الرقابة الذاتية تعفي المؤسسة الحاكمة من واجب تبرير مسها بحق المواطن في الحصول على المعلومات، كما يعفيها من رد فعل جماهيري غاضب على هذا المس، مثلما يحصل عندما يأتي الحظر من سلطة الرقابة العسكرية.
كما أشار نغبي إلى أنه في المرات التي رفضت «لجنة المحررين» التجاوب مع طلب المؤسسة الحاكمة عدم النشر حول موضوع معين، لم تجرؤ الرقابة العسكرية على فرض الحظر بقوة القانون، مضيفين أنه عندما تحجب «لجنة المحررين» معلومات عن المواطن لم ترَ الرقابة العسكرية أنه من المناسب حجبها، رغم أنها تملك الوسائل القانونية لذلك، «فإن وسائل الإعلام تخون عملياً ثقة الجمهور بها، كما تخون رسالتها، إذ لم يخوّلها أحد أن تقرر للمواطن ما هو جيد أن يعرفه وما لا تجب معرفته. هذه ليست وظيفة الإعلام في دولة ديموقراطية».
فحص مكثف للقضية
في غضون ذلك، أعلنت «اللجنة الفرعية للاستخبارات» التابعة للجنة الخارجية والأمن البرلمانية، أنها ستجري «فحصاً مكثفاً للجوانب المختلفة لقضية بن زيغر». لكن نواباً سارعوا إلى التوضيح أن الفحص لن يبحث عن مذنبين إنما يراد منه مساعدة مؤسسة الاستخبارات. وجاء الإعلان في أعقاب انتقادات وجهها رئيس لجنة الخارجية والأمن السابق تساحي هنغبي لجهاز الاستخبارات لعدم تبليغه اللجنة الفرعية البرلمانية الفرعية للاستخبارات في حينه عن «قضية بهذا الوزن». وأضاف انه إذا تبيّن أنه لم يتم تبليغ خلفه شاؤول موفاز بالقضية، فإن «في ذلك ما يشوش على الثقة الكبيرة التي تمنحها اللجنة لقادة أذرع الأمن، علماً أنه جرت العادة أن يتم طرح كل المواضيع، سواء كانت انجازات مثيرة للإعجاب او إخفاقات محرجة، أمام اللجنة الفرعية، ولذا فإن ما حصل يتطلب تفسيراً».
في هذه الاثناء، أفادت شبكة «ايه بي سي» الإخبارية الأسترالية امس، أن «السجين إكس» كان التقى بعناصر الأمن الأسترالية الداخلية، وقدم لهم «تفاصيل كاملة» عن عمليات قام بها «موساد»، بما في ذلك خطط لمهمات سرية في إيطاليا استغرق التخطيط لها سنوات. وأضاف ان ذلك يتناقض مع تقارير سابقة ادعت أنه جرى التحقيق مع زيغر، كما شددت على أنه من غير المعروف من الذي بادر إلى الاتصال مع الآخر.
الحياة اللندنية – أسعد تلحمي.