القدس العربي -هاشم شفيق /ذات ليلة ونحن جالسون في مسقى «اللوغريون»، وهو مكان ظليل، وذو مسحة رومانتيكية، يتردد عليه الفنانون والنخب الثقافية والفنية والأدبية المصرية، والزوار العرب والأجانب، اقترحت على الأصدقاء الجلاس في تلك الليلة الذهاب إلى بيت «عبد الحليم حافظ»، فرحب الصديقان الشاعران رياض النعماني وهادي الحسيني، دون تردد، بزيارة ذلك الموقع النغمي المترع بالموسيقى وتموج الأوتار.
الطريق
ضحىً في اليوم التالي نقطع الجسر برفقة الشعاع الساقط على النيل، ليأخذنا الى الزمالك، ويدلنا على بيت هذا الفنان العربي، ومحبوب الأجيال جميعها. ليس ثمة سائق لا يعرف مكان هذا البيت وعنوانه. عند حديقة الأسماك نترجل من المركبة، لنكون بمواجهة بناية «زهراء الجزيرة». وأنا أسعى لأضع خطوتي على المدخل، تذكرت كم من الفنانين، ملحنين ومطربين وشعراء من كتاب الأغنية، ولجوا هذا البناء المموسق والطربي، تذكرت كمال الطويل ومحمد الموجي ومنير مراد وبليغ حمدي، وشعراء مثل مأمون الشناوي ومحمد حمزة وعبد الوهاب محمد، وربما نزار قباني، هذا ناهيك عن لفيف من العازفين والمنشدين والمنتجين والممثلين الذين مثَّل معهم عبد الحليم حافظ أدواره المتقنة، ممزوجة بخفة دمه التي كانت الهبة والموهبة الثانية له، ومساعده والمعين في مشواره الفني، الغنائي والسينمائي والحياتي.
الرومانتيكي العربي .. سلاماً
المنزل يقع في الطابق السادس، ويطل على الحديقة، وربما شبابيكه تطل دون شك على شاطئ النيل. نسأل حارس البناية المُجلبب بزيِّه الصعيدي، فيرشدنا الى مكانه، لكنه رفض ان يفتح لنا الباب، لأننا قد جئنا هكذا دون موعد مسبق، ولكننا صعدنا في غفلة منه بعد أن انشغل مع أحد ما. نصل الى الطابق السادس، لنجد على حائط المدخل كله كتابات لمعجبين زاروا المكان، فخلفوا تواقيعم وأسماءهم وإعجاباتهم في كل زاوية ومطرح ومساحة. أجد فسحة صغيرة لملصق عليه صورة الفنان عبد الحليم، فأخرج القلم من جيبي وأكتب «العظيم عبد الحليم حافظ قلب الرومانسية العربية سلاماً «، وأترك في الموقع أسماء ثلاثة شعراء عراقيين مسحورين به، وبفنه الرفيع الذي تتناقله الأجيال، غبَّ رحيله عاماً بعد عام. غير أننا لم نكتف بذلك بل طرقنا الباب، وألححنا، حتى فتحت الباب مدبرة المنزل، فشرحنا لها هدف الزيارة وأننا عراقيون، لأننا نعرف أن الشعب المصري يحب العراقيين. استغللنا غياب الحارس، علنا ننفذ إلى البيت كله ونتملاه. تكلمت الخادمة مع من في الداخل، وأوشكت على أن تسمح بدخولنا، لكن عندما أصبحنا في مدخله، عاد البوَّاب مرة أخرى في تلك اللحظة، وقال بلهجته الصعيدية : «الحاجّة غير موجودة» ويقصد بذلك «الحاجة عليَّة» ابنة أخت عبد الحليم، وريثة هذا المكان .ما زال المنزل جميلاً ويبدو عليه طابع الاعتناء والعناية والأناقة البسيطة بسبب قدامته التي تنتمي الى ستينيات القرن المنصرم، فحتى المرايا فيه كانت تضيء المدخل وتزيده أبهة ورفعة ورونقاً .
في الأسفل سنمر على الحديقة، ونمر بـشارع كوكب الشرق أم كلثوم الذي يقع على كورنيش النيل، كان الوقت يقترب من الظهيرة، الزحام على أشده، رغم ذلك نأخذ تاكسياً الى منطقة «الفجالة «، وهي منطقة تختص ببيع الورق والكتب وطباعتها، فهي الداون تاون، ولكنها مزدحمة طوال الوقت ولا يهدأ الزحام فيها إلا في وقت متأخر من المساء. نصل الى هناك، ليشتري صديقي نسختين من رواية « قنديل أم هاشم»، وهي أول رواية عربية أرخت لهذا الفن من الكتابة الإبداعية، هناك سنميل بعد هذه الزحمة السمينة، الى «مطيعم» نتناول فيه الكشري وملحقاته، وبعدها سنعثر على مقهى «سطوحي» المعروف منذ أيام سالفة ومطوية، حين كانت «العتبة» هي القاهرة كلها، في ذلك الزمن الجميل، هي والشوارع الفنية الشهيرة المحيطة بها. المقهى كبير ومفتوح وذو أروقة خشبية معتقة بسبب قدامتها، قربها أشجار رمادية لوثتها أدخنة السيارات والمركبات التي لا تحصى .بعد استراحة قصيرة، وعناق مع العود وترديد أغان نحبها، في محلة «الدقي» التي انتقلنا اليها مباشرة ، بعد تناول الشاي في العتبة، هنا سنقوم بجولة سريعة على البائعين في أسواق «الدقي» من أجل ملامسة البداهة كيف تعيش وتسري في هذا المكان المتشعب والمحلي، والحافل بكل أنواع الخضار واللحوم والحاجيات المنزلية، مثل أي سوق عربي تقليدي .
مقهى زهرة ستراند
أخرج من الفندق مساءً، فلي موعدان مع الصديقين الناقدين حاتم الصكر الذي رمته الأقدار في إحدى المدن الأمريكية، التقي بالصديق في ساحة «طلعت حرب»، بعدها آخذه الى مقهى فولكلوري، يقع في زقاق يلي موقع «النادي اليوناني». هناك سنجلس لنستمتع بالشاي وأحاديث الكتب والشعر والرواية والنقد طبعاً. وحين يقترب موعدي مع الناقد المصري الشاب الدكتور رضا عطية، سنذهب معاً للقاء الثاني. نلتقي عند رصيف «ريش»، نعبره ومن ثم نعبر مقهى «زهرة البستان» ليذهب بي صديقي الناقد المصري الى مقهى يعرفها، هادئة وجميلة وتميل الى الرهف والإناسة في منطقة «باب اللوق» القريبة من موقع ميدان التحرير. المكان أراه لأول مرة، وهو يذكرني بالطابع الشامي من ناحية الطراز المعماري، وهو نوع من التشاكيل الحداثية، المغمورة بالألفة والأفياء الشرقية. نصل المقهى الفيروزي الضارب الى الشذري التركوازي، وهو من الألوان القريبة من عمق ذائقتي وأطوار شغفي المأخوذ بالعمارة الستينية، ذات المربعات والمستطيلات البنائية، الموحية والمستندة الى الفراغات والفجوات والمساحات الفارهة، تلك التي تذكرك بطابع المعماري الفرنسي والفنان الشهير كوربوزيه .ونحن نهمُّ بالدخول اليها، يشير صديقنا الناقد عطية الى مكان يرتاده ويجلس فيه الموسيقار المعروف والمتبقي من السلسلة النغمية المخضرمة، الفنان محمد سلطان، يجلس هنا بسنواته الثمانين ليداعب أصدقاءه، وليرمي بالنرد في عمق الزمن، عله يصل الى محطة ما، الى وتر آخر، الى سلم نغمي، يصعد اليه في اتجاه الأعالي، صوب نغمة مختلفة، لافتة وخليقة بعمره الموسيقي المديد .
المتحف المصري
الموقع الاستراتيجي للمتحف المصري في «ميدان التحرير» يجعل هذا المعلم التاريخي والحضاري والفني لمصر هدفاً سهلاً للوافد اليها، فهو يحمل معه الحلم المعاصر لسيرة هذا الموقع المزدحم بعطايا الماضي الذهبي، لملوك مرّوا وأرَّخوا بالتبر مجدهم الكبير، مجد فراعنة، شيدوا حضارات أولى، تساوقت وتناغمت مع الحضارة الرافدينية، العراقية والسورية، وقدمت للعالم المثال المفضَّض لشعوب بنت وأسَّست وسنَّت قوانين ودساتير للبشرية، كي توقد مسار هذا العالم فيما بعد.
حيث تآزرت معها غب ذلك، حضارة يونانية وأخرى فينيقية، متوسطية شملت بلداناً وعواصم عربية وشرقية، مهَّدتْ لبناء عالم حديث ومتجدّد، امتد عابراً العصور المظلمة والانحطاط، ليضاء بعد ذلك التاريخ ويتفتح على عصر الأنوار والحداثة، وعلى معالم الحياة الجديدة، المدنية والعصرية، وإن شابتها انتكاسات وحروب وفرمانات لتدمير الطاقات الحية والحيوية للبشرية والإنسانية ، لكن الإنسان الحر انتصر في الآخر، وحرر اليد والفكرة والعقل وحدّث الذهنيَّات، وأسَّس لمفاهيم وقيم عصرية بديلة.
لذا تقف الحضارة المصرية القديمة في مسار التاريخ الأول من جهة البنائين والمعطائين والمؤسسين الأوائل، ضمن نهج الحضارات الإنسانية البكر، كسومر وبابل وآشور وآكاد، ومثلها حضارة قرطاج وأثينا وأسطورة أساتذتها الكبار، مثيري الجدل بوسائل عقلية فتحتْ ثورة العقل الكبرى، قرب صروح الأكروبول أوانذاك .
الى هذا المكان كنت أدلف أحياناً، منتهزاً لحظات من الهدأة بين هذه الدفائن والكنوز التي خلفها البناة الغابرون للعالم، إنه تاريخ مصر القديمة يتوزع في مطارح عدة، في أسوان والأقصر والإسكندرية وفي جيزة القاهرة والقصبات التابعة لبعض المحافظات التي يكتنز بها هذا التاريخ المبهر للمصريين القدامى، ببذخهم الفني المتناثر في جيوب مكانية عديدة، من ضمنها هذا المتحف الزهري، المائل ليكون قرمزياً، دلالة لتاريخية المكان وللصلصال والآجر المفخورين اللذين يمثلان علامة الماضي السحيق والغابر، ولكن الحي والمعاصر والنضر في هذه الحقبة الزمنية من الحاضر العربي المرتبك والقلق.
محيط المتحف مكان سمح للاستراحة، وفيه أستطيع نيل قسط من الاسترخاء ، فأنت ستكون محاطاً بتماثيل ونصب تحاكي جمال الواقع الحي، نصب نصفية، غرانيتية وبازلتية صلبة، وقوية، بعضها مكسور الجوانب وبعضها محفوف، ولكنها تنير بقوتها الفرعونية إهاب المكان، وتلقي على جبهة الزائر وشاحاً من عبق غابر، فيه مسحة ورائحة من مرمر ورخام باهرين، ينامان في نصُب لبشر وحيوانات وأجساد نساء فرعونيات، ويجسدان نغم الميثولوجيا وهي تتمشى في رحبة الراهن، المائل الى التعقيد والزحام والضجيج والتلوث. هنا أحس بتحليق خفيف، يجول بي في عالم غير مرئي، موشح بغلالات شفيفة من السحر المنزوع من ذهب الفراعنة والملكات وحليهن التي ترنُّ في باحة وأبهاء الزمن الساري والمستديم .
٭ شاعر عراقي