من غير استهانةٍ بأي مظهر تضامن مع الأسير هشام أبو هواش، الذي قهر القهر قبل أسبوع مضى، ولا تبخيسٍ بالجهود السياسية والمساعي الدبلوماسية والوقفات الاحتجاجية، ناهيك عن المساندة الإعلامية لمعتقلٍ كان يخوض بأمعائه الخاوية، وإرادته الفولاذية، أطول إضراب عن الطعام في سجون الاحتلال البغيض، فإنه يمكن القول، بثقةٍ كاملة، إن هشام في معزله الموحش كان وحده لا رفيق له، يذوي كذبالة شمعة، يكابد ضعف جسده النحيل بصبرٍ جميل، يعضّ على جوعه كلما أمعن الجوع في عضّ بدنه، وهكذا ظل 140 يوماً بلياليها الطويلة يقاتل بحُشاشة الروح، يقاوم الجلاد بشجاعة مذهلةٍ، إلى أن فاز بحقّه في حياةٍ بلا مذلّة.
تعاطف الملايين من أبناء شعبه، وأضعافهم من العرب وأحرار العالم، مع هشام بهذا القدر أو ذاك، أكبروا فيه هذا الصمود الذي يجلّ عن الوصف، أعجبوا بقدرة هذا الرجل الاستثنائي على الصوم كل هذا الوقت الثقيل، بعضهم أشفق عليه، وآخرون امتلأوا زهواً به. ووسط فيضٍ من المشاعر الإنسانية المتلاطمة، كان السؤال عن ماهية النسيج الذي قُدّ من قماشته هذا الفتى الأبي البهي النقي التقي الخليلي العنيد، غير أننا كنا، في نهاية مطاف الانفعالات المكتومة هذه، عندما نفرغ من نوبة الإشفاق والإعجاب معاً، نتناول طعامنا في الموعد، ونواصل نظام حياتنا اليومية باعتياديةٍ شديدة، إلا هشام وحده، الذي أخذ قراره، من دون مفاتحة تنظيمه، أو حتى مشاورة رفاق سجنه على الأرجح.
هذه المقدّمة الزائدة عن الحد أملتها مظاهر حفاوة لا حصر لها، سبقت لحظة الإعلان عن فك أبو هواش إضرابه عن الطعام ورافقتها وتلتها، إثر التوصل إلى اتفاق، ليس على إطلاق سراحه فقط، وإنما أيضاً على عدم العودة إلى اعتقاله إدارياً، حيث ادّعى الجميع وصلاً بليلى، وزعموا صلة نسب بالمصاهرة إلى أرومتها الذهبية، ثم راح المتنافسون على صنيع فتاهم الأغر، أو قل على مجد هشام، يتسابقون مع أنفسهم على إبراز أدوارهم في تحقيق هذا الإنجاز الكفاحي الملهم، في مشهد فصائلي شائع، يتكرّر عند كل مأثرة نضالية، صغيرة كانت أم كبيرة، كي تساعد في ترمم الصورة المتآكلة، وتعلن عن استمرارية الحضور.
إذ في لحظة فوز سياسي محدود، ونصر أخلاقي لا مراء فيه، احتشد المحتفلون بهذا النصر في مسقط رأس هشام، وارتفعت كل البيارق الفصائلية عدا راية فلسطين، بينما كان عدد من شاركوا في مسيرة تضامنية معه (واحدة في رام الله والأخرى في غزة) بالعشرات فقط، وحتى الأسرى داخل المعتقلات الإسرائيلية، وعددهم نحو خمسة آلاف، لم يضرب عن الطعام منهم سوى 50، وكان ذلك في ربع الساعة الأخيرة قبيل اختتام المباراة. أما تهديدات “الجهاد الإسلامي” بالرد الصاروخي إنْ توفي ابنها النجيب في الأسر، فكانت مجرّد كلمة ممنوعة من الصرف، تحول دون إعرابها حسابات سلطة الأمر الواقع في القطاع المحاصر، على نحو ما سبق ذلك من تهديداتٍ مماثلة.
وعليه، فقد كان هشام أبو هواش وحيداً وحدة السيف في غِمده، متفرّداً بنفسه مثل حبّة لؤلؤ داخل محارة متوارية في لجّة بحر عميق، أو قل كنجمة لا خليل لها في سماء زرقاء بعيدة عن الأبصار، وأحسب أنه قد أخذ قراره بالإضراب من دون تشاور مع تنظيمه، أو حتى مع ذويه، مدركاً أن الوجع لن يتقاسمه معه أخ أو رفيق، وأن الألم لن يتحمله عنه حبيب، وأنه إذا انكسر لن يرمّمه أحد سواه، ولن تنصره في هذه المواجهة المميتة إلا إرادته، وأن ملاذه الأخير هو ضميره الوطني، كما يبدو أنه أخذ بنصيحة محمود درويش “حاصر حصارك لا مفرّ، هي آخر الطلقات، هي آخر ما تبقى من هواء الأرض، هي آخر ما تبقى من حطام الروح، فاضرب عدوك لا مفرّ، فأنت الآن حرٌّ وحرٌّ وحرُّ”.
والحق أن هشام قد حقق ملحمة صبر نادرة الحدوث في كل العصور، صنع مجداً شخصياً لا نظير له، وأضاف، في الوقت ذاته، لبنةً على مدماك كفاح شعبٍ لم تفلّ فيه إرادة ولم تنكسر لديه روح، صنعها هشام بالاتكاء على عمود وجوده، على بدنٍ كان يذوي باضطراد، وعلى بقيةٍ باقيةٍ من نبضٍ ظل يقاوم الألم والجوع بشقّ الأنفاس، ولولا كل هذا العنفوان الشخصي الهائل، وهذا المضاء الوطني المجيد، لما كانت مظاهر التضامن معه لها أي قيمة، ولا لمساعي الإفراج عنه أي نفع.