بينما تنشغل السياسة الأميركية بسباق انتخابات ٢٠٢٤، وبالتحول الدراماتيكي الذي أدخله عليه انسحاب الرئيس الحالي جو بايدن والترشح المتوقع لنائبته كامالا هاريس على بطاقة الحزب الديمقراطي في مواجهة مرشح الجمهوريين الرئيس السابق دونالد ترامب، لا تتوقف مياه العلاقات الدولية عن السريان وتواصل قضايا الحرب والسلام والأمن العالمي الضغط على القوى العظمى للبحث عن حلول لها.
بعيداً عن الولايات المتحدة، يواجه الاتحاد الأوروبي، وهو بحسابات الاقتصاد والمال والتقدم العلمي والنفوذ السياسي قطب عالمي، مجموعة من الأزمات المركبة التي تؤثر على العلاقات بين دوله، وبينها وبين جوارها المباشر في القارة العجوز وعلى ضفاف البحر المتوسط في شرقه وجنوبه، وتعصف باستقرارها الداخلي.
فمن جهة أولى، وظف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان تولي بلاده للرئاسة الدورية للاتحاد في مطلع تموز الحالي لإطلاق مبادرات دبلوماسية ليست محل توافق عام بين الأوروبيين، حيث زار روسيا للقاء مع رئيسها فلاديمير بوتين الذي يقاطعه الاتحاد منذ نشوب الحرب في أوكرانيا (ربيع ٢٠٢٢)، وحلّ في الصين للقاء مع الرئيس شي جينبينغ لطلب مساعدته في صياغة خطة سلام لإنهاء الحرب، والتقى مع ترامب في الولايات المتحدة متنبئاً بقدرته على وضع حد للحرب التي تستنزف القارة العجوز.
تجاوز أوربان في موسكو خطاً أوروبياً أحمر يقضى بعدم الاقتراب من بوتين، وتناسى في بكين توافق دول الاتحاد بشأن تهميش العملاق الآسيوي في قضايا الحرب والسلام، وأظهر في فلوريدا انحيازاً سياسياً لمرشح انتخابي تتحسب أوروبا لاحتمال عودته إلى البيت الأبيض وفعل ذلك في أجواء استقطاب غير مسبوقة في الداخل الأميركي. ثم كان أن رتبت فردية أوربان ومبادراته الدبلوماسية، التي لم ينسق بشأنها مع شركائه الأوروبيين الذين إلى اليوم يصمون آذانهم عن حديث إنهاء الحرب والحل السلمي للصراع بين روسيا وأوكرانيا، رتبت إقرار إجراءات عقابية من قبل الاتحاد تمثلت في خفض عديد الدول لمستويات حضورها في الاجتماعات التنسيقية التي تترأسها المجر، وفي نقل اجتماعات وزارية من العاصمة المجرية بودابست إلى بروكسل.
من جهة ثانية، بات واضحاً للأوروبيين أن المخاطر الأمنية والاقتصادية المرتبطة بالحرب الروسية – الأوكرانية في سبيلها إلى التصاعد، إن بسبب أتون سباق التسلح الذي أطلقته الحرب وتسكب عليه روسيا من خلال رفع معدلات إنتاجها العسكري والولايات المتحدة بشحن المزيد من نظم السلاح المتكاملة إلى القارة العجوز المزيد من الزيت المشتعل أو بفعل الكلفة الاقتصادية والمالية الباهظة للحرب وتداعياتها السلبية على أسعار الطاقة، ومن ثم معدلات النمو الوطنية في عديد دول الاتحاد أو فيما خص اشتداد الضغوط المجتمعية والسياسية المتعلقة بقضايا هجرة ولجوء الأوكرانيين في بعض الدول (ومنها المجر). اليوم، وعلى الرغم من مواصلة حكوماتهم الكبيرة رفض الانفتاح على حلول دبلوماسية وسلمية، صار الأوروبيون يدركون المضامين الكاملة والنتائج الكارثية لنشوب حرب على أراضيهم.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك عجز الاتحاد الأوروبي عن التدخل الفعال لإنهاء الحرب في غزة واكتفاء حكوماته الكبيرة، خاصة الألمانية والفرنسية والإيطالية، بالدعوة (حتى الآن) غير المؤثرة إلى وقف إطلاق النار وإلى إنفاذ المزيد من المساعدات الإنسانية وإلى الشروع في جهود إعادة الإعمار في تجاهل شامل لواقع القطاع الذي لم يصمت به السلاح منذ ٧ تشرين الأول ٢٠٢٣، ثم ربطنا بين الحرب واحتمالات التصعيد الإقليمي في لبنان بين إسرائيل و»حزب الله» وبين إسرائيل وجماعة الحوثيين في اليمن تصير بيئة المخاطر المحيطة بالقارة العجوز والكلفة المفزعة لانهيار الأمن والاستقرار على ضفاف المتوسط الشرقية والجنوبية (وتأثيراتها على قضايا كالهجرة غير الشرعية) جلية.
من جهة ثالثة، وكما دللت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في فرنسا، وكما تدلل استطلاعات الرأي العام في ألمانيا ودول أوروبية أخرى، لا تعانى القارة العجوز من حرب على أرضها ومن بيئة إقليمية فاقدة للأمن والاستقرار تحيط بها، وحسب، بل أضحت مجتمعاتها في الغرب والجنوب مثلما في الشمال والوسط والشرق تتعرض لهزات عنيفة بسبب الاستقطاب السياسي الحاد بين يمين عنصري متطرف ويسار راديكالي يضيع في خضم صراعاتهما حول الهجرة والأجانب والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والموقف من الحرب الروسية – الأوكرانية الوسط السياسي (يميناً ويساراً أي أحزاب المسيحية الديمقراطية والأحزاب الليبرالية هنا وأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وأحزاب العمال) الذي صنع معجزة النمو المستدام والأمن الشامل والاندماج القاري في أعقاب الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥).
الصفيح الساخن الذي تقف عليه مجتمعات أوروبا وهي تتابع اقتراب اليمين المتطرف في فرنسا من اقتناص مقاعد الحكم، وتراقب الحالة الألمانية بانتخابات الولايات والانتخابات الفيدرالية المتتالية في ٢٠٢٤ و٢٠٢٥، وتشاهد الذكاء السياسي لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني التي تنقلب على القوانين الليبرالية في الداخل وتتصرف بعقلانية تلتزم بالتوافق الأوروبي العام في الخارج، الصفيح الساخن هذا يذكر بأوضاع القارة العجوز في فترة ما بين الحربين العالميتين (بين ١٩١٨ و١٩٣٩) وخلالها سببت الصراعات الداخلية (خاصة في ألمانيا) والحروب والأزمات الأهلية (آنذاك في البلقان وإسبانيا) انهياراً اقتصادياً قاتلاً (الكساد العالمي ١٩٢٩) وفكت تدريجياً الهيمنة الاستعمارية للأوروبيين على العالم وزجّت بهم إلى كوارث الفاشية والنازية ومحرقة اليهود (الهولوكوست) ودماء ودمار الحرب العالمية الثانية.
وفي حين تستنفذ طاقات أوروبا بفعل أزمات دول الاتحاد والمخاطر الناجمة عن الحروب داخل القارة وفي جوارها المباشر والصراعات السياسية داخل مجتمعاتها، وتراوح الحكومات الكبيرة في باريس وبرلين وروما في مواقع السكون دون إطلاق مبادرات حقيقية للحد من الأزمات والمخاطر والصراعات، وبينما تنشغل الولايات المتحدة بسباقها الانتخابي ووضعية الاستقطاب السياسي والمجتمعي التي تعاني منها، تواصل الصين صعودها الدبلوماسي والسياسي عالمياً وتنتزع مساحات جديدة لأدوارها إن في الجنوب العالمي أو فيما خص إدارة شؤون التجارة والحرب والسلام بين الجنوب والشمال، والتوسط لحل صراعات إقليمية تهدد الأمن والاستقرار. تنتزع الصين تلك المساحات الجديدة، وكما تدلل وساطتها لتفكيك التوترات بين الكوريتين وتهدئة الشد والجذب بين الفلبين ودول آسيوية في المحيط الهادي، وكذلك إعلان بكين بشأن المصالحة الفلسطينية، رغم تحفظات الأميركيين والأوروبيين واتساقاً مع رؤية حكومتها للتوسيع التدريجي لنفوذها في قضايا العلاقات الدولية والسياسة العالمية على نحو يتناسب مع تقدمها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتكنولوجي الداخلي.
نحن أمام عالم تتغير أحواله كل يوم، ولا بديل عن المحاولة المستمرة لفهم مساراته الراهنة واستقراء تطوره المستقبلي.
عن صحيفة الايام