ما إن تسيطر النظم والجماعات الثورية على منطقة ما ستبدأ على الفور بما يسمى تنميط المجتمع، أي جعله على شاكلة واحدة، من حيث الزي والمظهر وأساليب العيش، وحتى المأكولات والمشروبات سيتم تحديدها، وستُخضع المجتمع لثقافة واحدة محددة، من خلال منع كافة الثقافات والأفكار الأخرى من التسرب للمجتمع، أو الرقابة عليها، وتحريمها وشيطنتها، بذريعة أنها دخيلة وأجنبية.. وشيئاً فشيئاً يبدأ الجميع بترديد الشعارات نفسها، واتخاذ المواقف ذاتها من كل شيء.
وبالتالي يتحول الناس إلى قطيع، لا يُسمح لأحد بالخروج عن الإجماع الشعبي، بحجة أن هذا مخالف لقيمنا وعاداتنا، وتصبح أي فكرة مختلفة شذوذاً، وأي إبداع تمرداً، وأي تفكير حر تجرؤا على المقدس، وتمّحي الفردانية والاستقلال الشخصي لصالح ثقافة مجتمعية مهيمنة.
مثل هكذا مجتمع تغيب عنه القيم الديمقراطية وقيم الحوار والاختلاف واحترام الرأي الآخر، وبسبب تركيبة النظام (حتى لو كانت جماعة صغيرة) سيتحول إجبارياً إلى نظام أتوقراطي ديكتاتوري، وبالتالي ستنشأ بالضرورة طبقة أوليغارشية فاسدة.. ما سيؤدي إلى انتقال الفساد إلى طبقات المجتمع الدنيا، ويصبح التقرب من رموز النظام أمراً ضرورياً لاستدامة العيش بأبسط شروطه (الحصول على كوبونة، أو للتوظيف، للترقية، للسفر، أو تحصيل امتياز خاص أو منحة مالية، أو لتجاوز القانون، أو لحل خلاف..) وطبعاً بالواسطة، وتصبح المقرات الحزبية محجاً للناس (الجماعات الدينية تحول دور العبادة إلى مقرات حزبية) وبديلاً عن مؤسسات الدولة وعن القانون.
ومثل مجتمع كهذا سيُصاب بهوس الأمن؛ النظام بدوره سينشئ أجهزة أمنية متعددة ومتداخلة: أمن على الشعب، وأمن على الأمن، وجميعها مخصصة لحماية أمن النظام وحماية مصالحه، وستبدأ هذه الأجهزة بتنظيم شبكات واسعة من المخبرين، وتصبح كتابة التقارير الأمنية تقليداً مجتمعياً راسخاً، وتصبح ضرورة ومتطلباً للعيش وتأمين الأمن الشخصي للفرد ولعائلته؛ وبذلك تنشأ عقلية أمنية استبدادية ستخلق أجواء مَرضية تشمل كل المجتمع، فعلى كل مواطن أن يبرهن على ولائه للحزب الحاكم وللزعيم الأوحد (أو لاتقاء شره)، وهذا يتطلب أن يسحق ويقصي الآخرين، بالتملق والتقارير الكيدية، لكي يترقى في الحزب والسلطة، بل وأحياناً حتى يعيش! وسيستغل النظام ذلك باختلاق أعداء وهميين يكيدون للوطن ويتآمرون على الثورة، ومعادين للمقاومة، حتى تختفي كل الأصوات المعارضة بل ويختفي صوت العقل والمنطق.. وهذه النار الأمنية ستحرق القامعين أنفسهم، فكل مسؤول في الدولة أو في الجماعة مهما علا مركزه أو صغر سيشعر بالخوف على مصيره، فيسود جنون الشك والارتياب، ولا يعود أحد يثق بالآخر، وبذلك تتسع دوائر القمع والعنف بتكلفة إنسانية باهظة، تتجاوز حجم أحلام الأيديولوجيات الخلاصية.
ويصبح الحزب أقوى من المجتمع، ومؤسسات الأمن أقوى من الجميع، وتشل القبضة الأمنية أشكال الحياة.
وبسبب طوباوبة الشعارات، والمثالية المفرطة للنظرية الثورية، وعدم واقعية الأهداف، وروح الاندفاع بعقلية المغامرة والتهور، والسمات الإنشائية للخطاب الإعلامي، وسوء تطبيق النظرية، وترافُق ذلك مع فساد مستشرٍ في بنيان الحزب الحاكم وفي المجتمع نفسه.. كل ذلك سيؤدي إلى الفشل، وإلى تلقي الهزائم العسكرية، وإلى الأزمات الاقتصادية، وتعطيل النمو الطبيعي للمجتمع، وحرمانه من فرص التطور والتقدم.
السمة الأخرى لهذه الجماعات الأيديولوجية، وربما هي الأخطر: تمجيد الموت واحتقار الحياة.. فالحياة تعني التنوع والتعددية والاختلاف، وتعني الاحتفاء بالجمال ومباهج الحياة، والاهتمام بالفنون والآداب والعلوم والفلسفة.. وهذه كلها تهز أركان النظام، لأنها تدفع الناس للتفكير والتساؤل والاعتراض والاحتجاج وإطلاق المبادرات وتعدد الآراء.. وهذا آخر ما يريده النظام، ويناقض المرتكزات التي يقوم عليها.. لذا بدلاً من القمع المباشر (وفي كثير من الأحيان بالترافق معه) يتم ازدراء الحياة، وإعلاء شأن الموت، من خلال استخدام العبارات التجميلية التي تخفف من وطأته، وتجعله مقبولاً، بل محموداً.. فيتم وصفه بالشهادة، والتضحية في سبيل الله، أو في سبيل الوطن، أو فداء للثورة وللمقاومة، وفداء للقائد.. وتصبح نجاة الفرد والجماعة لا تتحقق إلا من خلال الشعارات الخلاصية المطلقة، أي في الحياة الآخرة، وليس في الدنيا الفانية.. فكيف لمجتمع يقدس الموت أن يصنع الحياة والمستقبل؟
والغريب أن دعاة الشهادة والتضحية يرتدون دوماً سترات واقية من الرصاص، ويتحصنون في ملاجئ وأنفاق آمنة، ويدفعون بغيرهم للموت!
ولأنها جماعات أيديولوجية مغلقة فهي لا تؤمن بفكرة الوطن والشراكة، والدولة المدنية، والمجتمع المدني والتعددية، ولا تأبه لحياة البشر إلا بالقدر الذي يضمن ويحمي أيديولوجيتها، ويضمن بقاءها في السلطة؛ فيصبح الحزب في نظرها أهم من الوطن ومن الدولة، وأهم من الشعب، وأهم من الحياة.. وحتى تستطيع ذلك وتسوقه للعامة لا بد لها أن تفرض أيديولوجيتها على الجميع بشتى السبل، منها مثلاً الادعاء أن أيديولوجيتها هي الحق المطلق، وأنها هي التي تحمي البلد، وتحمي الشعب، وتتصدى للعدوان، أو أنها وحدها من يجسد المقاومة ويمثلها.. فتتحول المقاومة تلقائياً من أسلوب ووسيلة إلى الهدف بحد ذاته، وتصبح ديمومة المقاومة شرطاً لبقائها وهيمنتها، حتى لو أدى ذلك إلى تعطيل الحياة وشل المجتمع، بل وانهياره حرفياً.
تلك أبرز سمات الجماعات الراديكالية التي تغطي نفسها بتسميات عديدة (الجهاد، المقاومة، الثورة، التقدمية، الوطنية، الاشتراكية..)، منها من نجح بتولي السلطة في بلد ما، ومنها من سيطر على منطقة محددة، ومنها من يحاول ذلك.. أغلبيتها الساحقة فشلت، وعوضت فشلها بمزيد من القمع، أو بخوض الحروب، وافتعال الصراعات، واختلاق الأعداء.. ويمكن لأي متتبع أن يسقط ذلك على العشرات من الجماعات والدول والأحزاب الحاكمة في شتى مناطق المعمورة.. وربما نلخص كل ما سبق بكلمة واحدة (الدكتاتورية).
البديل الوحيد لهذا الفشل، هو الديمقراطية بكل ما تعنيه من تعددية، واختلاف وتنوع وحرية التفكير والتعبير والنقد والمساءلة والمحاسبة والمشاركة في السلطة وفي صنع القرار، وتجديد المؤسسات والقيادات من خلال الانتخابات الدورية المنتظمة، ومن خلال حرية الصحافة واستقلالية القضاء، وإعلاء قيم الحرية والعدالة وقيمة الحياة، وإعلاء شأن الإنسان، والاعتقاد بجدية أن الإنسان هو المحور والغاية والهدف والوسيلة.. الإنسان من حيث كرامته وحريته وحقه في الاختيار والتطلع نحو المستقبل.
باختصار ألا تنطلي علينا حيل الشعارات البراقة.
عن صحيفة الايام