أعلن باراك أوباما خلال ولايته الأولى تحقيق النصر في الصراعات الأميركية في الشرق الأوسط، وبينما سارع الرئيس إلى سحب جميع قوات حفظ السلام الأميركية من العراق، تصرف بدوره وكأنه أنجز المهمّة حين أعلن أن البلد أصبح “مستقراً” و”متّكلاً على نفسه” وتحدث عن تحقيق “إنجاز استثنائي”. عكست تلك الادعاءات موقف نائب الرئيس جو بايدن حين تفاخر سابقاً بأن العراق قد يشكّل “أعظم إنجاز” حققه أوباما، فبعد مقتل أسامة بن لادن، أعلن الرئيس أوباما مجدداً، خلال حملة إعادة انتخابه أن “القاعدة” كانت قوة متهالكة ويحاول عناصرها الآن الاختفاء عن الأنظار.
لكن ما هي تحديداً استراتيجية أوباما التي يُفترض أنها حققت النصر في الحرب على الإرهاب وسط البيئة العدائية في الشرق الأوسط؟
حلّت العبارات الملطّفة والمبهمة مكان المصطلحات التي تُعتبر مؤذية مثل “الإرهاب” و”المجاهدين” و”الإسلاميين”، وألقت الإدارة خطابات تحمل نوايا حسنة وكانت تبالغ في التحدث عن الإنجاز الإسلامي تزامناً مع ذكر الذنب الأميركي الماضي، وتقرّبنا من تركيا والفلسطينيين مقابل إلقاء محاضرات صارمة على مسامع إسرائيل، واعتُبر النصر العسكري مفهوماً بالياً وأصبح التحرك من وراء الكواليس بديلاً ذكياً عنه.
أجمع سكان الشرق الأوسط على أن الولايات المتحدة المستضعفة ستجرّ نفسها للخروج من المنطقة كي توجّه قواها نحو أماكن أخرى فتوفر على نفسها مليارات الدولارات التي يمكن صرفها على مشاريع أفضل محلياً، وسعت المقاربة الدبلوماسية الجديدة إلى الفوز بقلب الشارع العربي وعقله، وبالتالي حرمان الإرهابيين من أي دعم شعبي.
لتقييم تلك السياسة، يكفي أن نجري استطلاعاً راهناً في الشرق الأوسط، أو ما تبقى منه: مصر، والأنظمة الملكية الخليجية، والعراق، وإيران، وإسرائيل، والفلسطينيون، وليبيا، وسورية، وتركيا. يمكن القول إن الولايات المتحدة نجحت بطريقةٍ ما في تهميش الأصدقاء وتشجيع الأعداء ومضاعفة عدد الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين.
ما الذي حصل إذاً؟
باختصار، وضعت إدارة أوباما السياسة والأيديولوجيا فوق التحليل الموضوعي وغير المنحاز للوضع السائد في الشرق الأوسط في عام 2009، فخاض أوباما حملته الانتخابية في عام 2008 على أساس حرب فاشلة في العراق، وحرب مهملة في أفغانستان، وحرب غير مدروسة على الإرهاب، وشرق أوسط يتعرّض للتهميش، فأصبحت هذه المواضيع بالية وطغت عليها الأحداث المتسارعة ميدانياً. في يوم التنصيب في يناير 2009، كانت خطة زيادة القوات العسكرية قد هزمت “القاعدة” في العراق. لقد فازت بدعم شريحة واسعة من السُّنة، مما مهّد لنشوء حكومة ائتلافية مدعومة من الولايات المتحدة وخاضعة لمراقبة القوات الأميركية.
لكن برز مؤشر تحذيري واحد: كان يمكن خسارة الإنجازات التي تحققت ميدانياً بسهولة إذا لم تترك الولايات المتحدة وراءها قوات لحفظ السلام مثلما فعلت في جميع عمليات التدخل الناجحة سابقاً: البلقان، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، الفلبين، كوريا الجنوبية.
بهذه الطريقة أيضاً حققت تدابير “الحرب على الإرهاب” التي تعرضت في البداية للهجوم (غوانتنامو، قانون “باتريوت”، المحاكم العسكرية، الاعتقالات الوقائية، عمليات الترحيل السري، الطائرات بلا طيار) النجاح بحلول عام 2009، فمنذ اعتداءات 11 سبتمبر، أحبطت الولايات المتحدة عشرات المؤامرات الإرهابية ضد الوطن وأبطلت خطط الإرهابيين في الخارج، فقتلت عشرات الآلاف في العراق وأفغانستان معاً.
في مرحلة معينة، تقبّل أوباما في قرارة نفسه هذه الحقيقة لذا تابع تطبيق عدد من البروتوكولات التي كان ينتقدها في السابق.
لكن برزت مشكلة أخرى مجدداً، تابع أوباما الإعلان أمام العالم عن قراره إقفال معتقل غوانتنامو واستبدال المحاكم المدنية بمحاكم عسكرية، كما أصرّ على أنه لا يستمتع باستعمال أسلوب الترحيل السري أو العمليات بطائرات بلا طيار، مع أنه زاد تلك العمليات بعشرة أضعاف لتنفيذ مهام خطيرة. كانت النتائج عبارة عن رسائل متناقضة كفيلة بتشجيع الإسلاميين المتطرفين، فاستخلص الإسلاميون المتطرفون أن إدارة أوباما نفسها اعترفت بأن بروتوكولاتها المعادية للإرهاب كانت مشبوهة من الناحية الأخلاقية أو غير فاعلة.
سرعان ما تعززت تلك الرسالة المختلطة بعد لوم صانع فيديو بدل القضاء فوراً على المجاهدين المعروفين الذين قتلوا الأميركيين في بنغازي، ثم ترسخ ذلك الانطباع مجدداً بعد تحرير خمسة إرهابيين من غوانتنامو مقابل جندي أميركي كان قد هرب من الجيش في أفغانستان.
ثم برزت سلسلة من الخطوط الحمراء والمهل النهائية ومواعيد الانسحاب الفارغة من الشرق الأوسط لتعزز فكرة الضعف الأميركي.
حذرنا سورية من الضربات الجوية ثم تراجعنا، وزدنا القوات العسكرية في أفغانستان قبل أن نعلن موعد انسحاب قواتنا، فأصدرنا عدداً كبيراً من المهل النهائية كي توقف إيران تخصيب اليورانيوم، لكننا نسينا أمرها وأنهينا العقوبات على أمل التفاوض معها.
كما حصل مع روسيا، برزت في البداية عواقب محدودة لمقاربة إعادة ضبط العلاقات والوعود بتحقيق انتصار سهل، وكادت “القاعدة” تُمحى من محافظة الأنبار بين عامي 2007 و2008، حين كانت لا تزال تحشد نفسها، فأعاقت العقوبات مسار إيران التي كانت تشتبه في النوايا الأميركية، ولم يشأ الإرهابيون أن ينتهي بهم الأمر في غوانتنامو أو في محكمة عسكرية، لكنهم راهنوا على أن قوة الردع القديمة خمدت وباتت تنحصر الآن بخطاب أوباما عن إعادة ضبط العلاقات بعد أن استعادوا جرأتهم مؤخراً، كما راهنوا على أن الوقت أصبح مناسباً لشن الهجوم، وربما كانوا محقين.
مجدداً، يسعى باراك أوباما إلى لوم الآخرين على الفوضى المتنامية منذ عام 2009 في الشرق الأوسط، لكنه يريد فعلياً الخروج من هذه المنطقة المضطربة بأي ثمن ويتمنى أن ينجح أحد في التخلص من جميع العوامل السيئة.
الجريدة الكويتية