عندما شن الرئيس جورج دبليو بوش الحرب على الإرهاب في أعقاب هجمات تنظيم “القاعدة” في 11 أيلول (سبتمبر) من العام 2011، عرّف العدو بتلك الطريقة الشهيرة على أنه “مجموعة من الإرهابيين الذين يتمتعون بوصول عالمي”. لكن تقريرا مهما نشرته في 5 شباط (فبراير) “مبادرة العدالة المجتمعية” يظهر أن عنصرا رئيسيا في رد إدارة بوش تمثل في حد ذاته في نشر الإرهاب -بمستوى عالمي. ويكشف التقرير المعنون “عولمة التعذيب” أنه بينما كانت الولايات المتحدة هي المولد لبرنامج وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إيه) لخطف وتسليم وإخفاء وتعذيب المشتبه بأنهم إرهابيون، فإن هناك 54 دولة أخرى تورطت في البرنامج. ويسمي التقرير، وهو الاكثر شمولية حتى الآن عن برنامج التسليم (تسليم المطلوبين لدولهم) أسماء الدول -من أفغانستان إلى زيمبابوي- ويدعو إلى المحاسبة التي تظل حتى الآن مغيبة جملة وتفصيلا.
وكانت بعض الدول، مثل بولندا وتايلند، قد سمحت للسي آي إيه بتأسيس سجون مركزية أو “مواقع سوداء” على أراضيها. بينما قامت بعض البلدان، مثل سورية وباكستان ومصر، بتعذيب مشتبه بهم سلمتهم إليها السي آي إيه. كما قامت بعض البلدان، مثل مقدونيا وجيورجيا والسويد، بتسليم مشتبه بهم إلى السي آي إيه، أي أنها قامت أساساً بتسليمهم حتى يتعرضوا للتعذيب. وقامت بعض الدول، مثل كندا وبريطانيا، بتوفير معلومات استخبارية استخدمتها السي آي إيه في حينه لاعتقال أو تسليم أو استنطاق مشتبه بهم. وشاركت بعض البلدان، مثل بريطانيا وألمانيا، في التحقيقات نفسها. وسمحت دول أخرى، مثل بلجيكا وايسلندا واليونان والدانمارك، لطائرات التسليم باستخدام مطاراتها ومجالها الجوي. وقد فشل الجميع تقريبا في إجراء تحقيقات جادة في تواطئهم مع انعطاف الولايات المتحدة إلى الجانب المظلم.
فما الذي يمكننا فعله بشأن هذه المعضلات الخاصة ببرنامج التسليم غير الطبيعي؟ لعل انخراط العديد جدا من الدول الأخرى في برنامج، متى ما أصبح مكشوفاً ووجه بإدانة عالمية تقريبا، ما يشير إلى أن النفاق ليس عالماً مقصوراً على مسؤولي بوش (الذين ادعوا بأنهم لم “يعذبوا” أحداً، حتى بالرغم من أنهم أجازوا على نحو سري تعذيب خالد شيخ محمد بمحاكاة الإغراق 183 مرة). وقد تبين أن الإدانة الكونية الواسعة لبرنامج التسليم غالبا ما أخفت دعما هادئاً من جانب نفس تلك البلدان. ويبدو غالبا وكأن الولايات المتحدة سعت بالتأكيد إلى توريط ما تستطيع من الدول، من أجل خفض احتمالات أن يعمد أي أحد إلى تحديها.
من جهة، يشي التورط الموسع للعديد من الدول في برنامج السي آي إيه بأن التحدي الذي يواجه دعم حقوق الإنسان ربما يكون أكبر مما نعتقد. لكن هذه التشابكات الدولية تشي، من جهة أخرى، بوجود طريق للأمام. فلدى العديد من هذه الدول آلياتها الخاصة للمحاسبة. وبعضها صالح للإجابة أيضاً أمام مؤسسات عابرة للحدود، مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمفوضية الافريقية لحقوق الإنسان والشعوب. ويعني تواطؤ 54 دولة أنها يمكن أن تكون هناك 54 طريقة لتقصي المسؤولية عن الأفعال الخاطئة التي ارتكبتها السي آي إيه والمتعاونون معها.
وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قدمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مثالاً مهماً بشكل حاسم. ففي قضية المصري ضد مقدونيا، قضت المحكمة بأن مقدونيا قد انتهكت حظر الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان للتعذيب والمعاملة غير الإنسانية والاعتقال التعسفي، من خلال تسليم خالد المصري للسي آي إيه، التي قامت بدورها بتعذيبه وتسليمه إلى أفغانستان. ولم تقم مقدونيا بالتعذيب بنفسها، وإنما تولته السي آي إيه. لكن المحكمة قضت بأن نقل المصري إلى السي آي إيه تحت هذه الظروف، قد ارتقى إلى مستوى التواطؤ في التعذيب، وأمرت مقدونيا بدفع تعويضات عن الاضرار. ولا تملك المحكمة الأوروبية الاختصاص القضائي على الولايات المتحدة، ولذلك لم تستطع إصدار أمر لرفع الظلم عنه، لكنها وجدت صراحة أن السي آي إيه قامت بتعذيب المصري، ما يسند توصلها إلى تواطؤ مقدونيا.
حتى الآن، هناك دولة واحدة أقرت بتواطئها من أصل 54. ففي العام 2004، شكلت كندا لجنة لتفحص دورها في عملية قيام الولايات المتحدة بتسليم ماهر عرار، المواطن الكندي، لسورية، حيث عذبه البوليس الملكي الكندي بينما كان يوجه له نفس الأسئلة التي كانت قد وجهتها إليه السلطات الاميركية. وقد أعفت اللجنة الكندية عرار ووجدت الأجهزة الأمنية الكندية مخطئة في تقديم معلومات مضللة من بين أمور أخرى. وتبعاً لذلك، اعتذر البرلمان الكندي رسمياً وتم دفع تعويضات لعرار عن الأضرار التي لحقت به.
ولم تقر أي دولة أخرى بتواطئها، مع أن بريطانيا والسويد واستراليا توصلت إلى تسوية بخصوص قضايا قانونية تؤكد مسؤوليتها. لكن القضية المقدونية تشير إلى الطريقة لمحاسبة ممارسات مشابهة. وفي كل مرة يتم فيها تحميل بلد آخر المسؤولية، تتوصل الاستنتاجات إلى توريط الولايات المتحدة نفسها أيضاً.
إن هذه الجهود غير المباشرة لتحديد المسؤولية ضرورية، ليس فقط لأن العديد من الدول انتهكت التزاماتها الأكثر أساسية، وإنما أيضاً لأن الولايات المتحدة أعاقت حتى الآن كل الجهود الرامية إلى تحديد المسؤولية في الوطن. وقد أقر كل من الرئيس بوش ونائب الرئيس ديك تشيني على حد سواء بأنهما خولا عمليات استخدام محاكاة الإغراق، وهو شكل من التعذيب، كما تظهر مذكرات كشفت عنها إدارة أوباما أن قانونيين رفيعي المستوى في مكتب مستشار قانوني كانوا قد حرّفوا القانون بحيث يجيز ارتكاب جرائم الحرب هذه. لكن أياً من هؤلاء الأشخاص لم يمثل أمام تحقيق جنائي، ناهيك عن ملاحقته قضائياً. وفي الأثناء، تم رفض كل القضايا المدنية المطالبة بالتعويض في الغالب، استنادا إلى ذرائع تخص أسرار دولة. وقد أوصى مكتب الاخلاقيات التابع لوزارة العدل بأن يحال كل من جون يو وجاي بايبي، وهما المحاميان اللذان كتبا أول المذكرات عن التعذيب، إلى نقابة المحامين لتأديبهما، لكن مسؤولا في وزارة العدل نقض تلك التوصية. كما عارض الرئيس أوباما حتى تشكيل لجنة تحقيق.
يبقى هناك منتدى محلي واحد يستطيع نظريا تقديم نوع من الفرصة للمحاسبة -ولكنه لن يستطيع ذلك إذا لم تساعده الحكومة. وقد وقع المدعى عليهم في المحاكم العسكرية التي تجري راهنا في غوانتنامو من ضحايا برنامج التسليم والتحقيق للسي آي إيه مذكرة، وسعوا بشكل مناسب إلى إثارة ذلك الموضوع في محاكماتهم، وردت الولايات المتحدة بجعل روايات المعتقلين عن إساءة معاملتهم سرية، ومنعهم ومحاميهم من بحث موضوع الإساءات علناً. وقد استخدمت الحكومة تكنولوجيا خاصة في قاعة المحكمة بحيث تتمكن من قطع تغذية صوت وقائع المحاكمة لوسائل الإعلام والمراقبين الخارجيين إذا جرى التطرق إلى ذكر معاملة السي آي إيه للمعتقلين. وفي كانون الثاني (يناير) ظهر أن السي آي إيه كانت تشغل المفتاح السري حتى على القاضي العسكري الذي يترأس المحاكمة. وأكد القاضي الآن أنه السلطة الوحيدة المخولة بإقفال الميكروفونات، لكن الموضوع الرئيسي ليس من يجب أن يقفل الميكروفونات أو يشغلها، وإنما يتعلق بأن الولايات المتحدة غير قادرة على الاعتراف بظلمها الخاص، حتى وهي تسعى إلى اعتبار أولئك الذين عملوا ضدنا مسؤولين عن إساءاتهم. قد تكون الولايات المتحدة قادرة على قمع الشكاوى في الوطن، لكنها تفتقر إلى القوة لممارسة هذه الرقابة في الخارج. ولعل الرد المناسب الوحيد لعولمة التعذيب هو عولمة المحاسبة.
(ميدل إيست أونلاين) ترجمة: عبد الرحمن الحسيني– الغد الاردنية.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان:
Fifty – Four Nations Are Implicated in a CIA Torture Scheme