ليس لدى كوريا الشمالية ما يكفي من الغذاء، وهي تفتقر إلى وجود “فيسبوك” وبيونسي، ويترتب على دبلوماسييها قصر استخدامهم الحواسيب على وقت تواجدهم في وزارة الخارجية، بسبب النقص في إمداد الكهرباء.
لكن كوريا الشمالية تبرع وتتفوق في تصميم الرقص والمسرح، ومسؤولوها متعلمون جدا، وأذكياء جدا، ورشيقون جدا في الأداء الحركي والدوران على ساق واحدة. وإذن، لدينا سلام يشرق في شبه الجزيرة الكورية –ويُعزى إلى الرئيس ترامب بعض الفضل في ذلك.
كما هو واقع الحال مع أي أداء في السيرك، من المدهش أن يحدق المرء بانسجام في العرض، وإنما ليس إلى حد نسيان الفاتورة.
عندما دخل كيم جونغ أون إلى كوريا الجنوبية يوم الجمعة -وهو أول زعيم كوري شمالي يفعل ذلك على الإطلاق- دعونا نعترف بأنه أتقن اللعب من موقف الضعف بشكل استثنائي. ويهدف كيم الآن إلى التخلص من العقوبات المفروضة على بلده، وبناء اقتصاده والحفاظ على ترسانته النووية، بينما يظل حاضرا في مركز الانتباه العالمي. وهو أداء رائع لا يُصدَّق.
تنطوي عبارة “خبير في شأن كوريا الشمالية” على تناقض دلالي. ولكن، من موقعي كشخص ظل يغطي أخبار هذا البلد منذ ثمانينيات القرن العشرين، إليكم فهمي للسبب في أننا يجب أن نكون متشككين بعمق فيما يحدث –وأن نشعر مع ذلك بالارتياح، بل وربما ببعض الأمل أيضاً.
أدى تشديد الرئيس ترامب للعقوبات على كوريا الشمالية وخطاباته الحربية إلى إحداث تغيير حقيقي في المعادلة. ومع أن كل ذلك كان يهدف إلى تخويف كيم، فإنه أثار أيضاً قلق الرئيس مون جاي في كوريا الجنوبية، وحفزه على القيام بخطوة الدبلوماسية الأولمبية الناجحة التي أرست الأساس لعقد مؤتمر القمة بين الشمال والجنوب.
ثم استثمر كيم ذلك التقدم في ترتيب اجتماعات مع كل من ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ، وكلاهما يعكس أهداف كوريا الشمالية طويلة الأجل. وفي يوم الجمعة، تبنى كيم ومون إعلانا يعِد بأنه “لا مزيد من الحرب” وبحلول “حقبة جديدة من السلام” وبـ”نزع كامل للسلاح النووي”.
ويبدو هذا التطور ملهِما، لكنه يبقيني متشككا.
كان زعماء كوريا الشمالية والجنوبية قد وقعوا وثائق سلام كبرى من قبل، في العامين 2000 و2007، ولم يصمد أي منها. وفي العام 2012، وافقت كوريا الشمالية على عدم إجراء تجارب على الصواريخ، لتقوم بعد ذلك ببضعة أسابيع فقط بإطلاق واحد، وتصف ذلك بأنه عملية إطلاق “قمر صناعي”.
عندما تتحدث كوريا الشمالية عن “نزع كامل للسلاح النووي”، فإنها تعني بذلك في العادة أن تنهي الولايات المتحدة تحالفها مع كوريا الجنوبية، ومن ثم لن تحتاج كوريا الشمالية بعد ذلك إلى أسلحة نووية للدفاع عن نفسها. لكن الولايات المتحدة لن تتخلى عن الجنوب. وكانت كوريا الشمالية تسعى إلى الحصول على أسلحة نووية منذ خمسينيات القرن العشرين، ولا أعرف أي خبير يعتقد أنها سوف تقوم بتسليم ترسانتها حقاً.
في زيارتي الأخيرة إلى كوريا الشمالية، في أيلول (سبتمبر) الماضي، أخبرني مسؤول في وزارة الخارجية أن ليبيا تخلت عن برنامجها النووي -فقط لتشهد نظامها وهو يسقط. وبالمثل، كما أشار المسؤول، كان الرئيس العراقي صدام حسين يفتقر إلى امتلاك رادع نووي -ولذلك أطاحت أميركا بصدام. وأصر على أن كوريا الشمالية لن ترتكب الخطأ نفسه.
بل لقد أصبح من الأقل احتمالا بكثير أن تتخلى كوريا الشمالية عن أسلحتها النووية الآن، بينما ترى ترامب مستعداً لتمزيق الاتفاق النووي الإيراني.
يبدو أن خطة كيم هي التوقيع على تعهدات بنزع السلاح النووي، وترك التفاصيل للعمل عليها في محادثات المتابعة، وهو يعلَم أن التعهدات لن تُنفذ بالكامل، وأنها لن تكون هناك أبداً عمليات تفتيش تطفلية على مرافقه. وربما يكون التصرف على هذا النحو ماكراً من جانب كوريا الشمالية، لكنه ليس سيئا كثيرا: فهو يوفر طريقة لحفظ ماء الوجه لكل من كوريا الشمالية والولايات المتحدة للتراجع عن الوقوف على حافة الحرب.
يرغب ترامب وكيم بشدة في عقد الاجتماع، ولذلك يمكن أن نتوقع من كوريا الشمالية أن تفرج عن المعتقلين الأميركيين الثلاثة في الأسابيع المقبلة، وأن تُصدر تصريحات مهدئة. وسيقدم كل من ترامب وكيم نفسيهما كصانعي سلام تاريخيين عندما يوقعان على إعلان من نوع ما، والذي يدعو إلى إحلال السلام ونزع السلاح النووي، بنوع ما من الجدول الزمني. ثم سيقول مساعدو ترامب إنه يستحق جائزة نوبل للسلام أكثر مما استحقها باراك أوباما.
آمل أن يثير ترامب في الاجتماع أيضا قضايا حقوق الإنسان. وقد أشارت لجنة تحقيق خاصة إلى أن كوريا الشمالية ارتكبت جرائم ضد الإنسانية “على نطاق واسع” في معسكرات العمل لديها، ويجب علينا أن نضغط من أجل وصول المنظمات الإنسانية إلى هذه المعسكرات.
وقال لي نافي بيلاي، المفوض السامي السابق لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة: “إن أكثر من 100 ألف شخص، وهو رقم يشمل عددا لا يحصى من أفراد العائلات البريئين من أعداء الدولة المزعومين، يودَعون فعليا على ذمة الموت في السجون السياسية لكوريا الشمالية. كما أن عمليات الإجهاض القسري، ووأد المواليد، واضطهاد المسيحيين، والتعذيب والإعدام بإجراءات موجزة التي تحدث بانتظام في تلك المرافق المختلفة، هي أمور موثقة جيدا. ويستطيع الرئيس ترامب أن يطالب بإتاحة الفرصة لوصول منظمة الصليب الأحمر والمجتمع الدولي إلى السجون وأنظمة معسكرات العمل في كوريا الشمالية”.
في هذه الأثناء، أعتقد أن كوريا الشمالية ستوقف كافة التجارب النووية والصاروخية (بما في ذلك تجارب الصواريخ قصيرة المدى)، وستتوقف عن إنتاج البلوتونيوم في مفاعلاتها في يونغبيون (وقد تدَّعي كوريا الشمالية أيضا أنها أوقفت تخصيب اليورانيوم، ولكن التحقق من هذا الأمر يبقى أكثر صعوبة). وفي المقابل، ستقوم الصين وكوريا الجنوبية بتخفيف العقوبات عنها بهدوء، وسيحصل كيم على ما كان يريده دائما: الشرعية المكتسبة من التعامل معه كزعيم عالمي، وكنظير، وحاكم دولة نووية بحكم الواقع.
سوف يستفيد كل من كيم وترامب سياسيا من هذا السيناريو، وكذلك سيفعل العالم –إذا كان ذلك يهم: سوف يغضب المتشددون من أنه يتم التلاعب بنا، ويقولون أن الشمال لا يتخلى عن أسلحته النووية بطريقة يمكن التحقق منها -صحيح- لكن كل ذلك يظل أفضل من الحرب .
كيف سينتهي هذا؟ إن خطة الغرب هي المماطلة بالأمور إلى أن ينهار الشمال. وربما يحدث ذلك. لكن المشكلة هي أن هذه كانت أيضاً خطة الولايات المتحدة في العام 1994 في صفقة نووية سابقة. وأنا أعترف الآن بأنني اخترت أن أصبح مدير مكتب صحيفة “نيويورك تايمز” في طوكيو في أواخر التسعينيات، جزئيا حتى أتمكن من تغطية ما أعتقدت أنه قد يكون الانهيار الوشيك للنظام الكوري الشمالي. لكنني تعلمت حينها أن لا أتنبأ بتوقيت زوال سلالة كيم.
في واقع الأمر، يبدو الإطار الناشئ أشبه بطريق خلفي لمنح غطاء نووي أو لتطبيق حل “تجميد التجميد” الذي أوصت به كوريا الشمالية والصين ورفضه ترامب. وقد ينهار كل شيء. لكن من الممكن الآن تصور طريق يبعدنا عن الحرب. ولذلك، حتى نحن المتشككين ينبغي أن نكون ممتنين.
(نيويورك تايمز) ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية