بينما تناقش إدارة أوباما ما إذا كانت، وكيف يمكن، أن تتدخل في أزمة العراق المتكشفة باطراد، اقترح معظم أنصار التدخل أن العمل في العراق ينبغي أن يقترن بعمل في سورية. ومع ذلك، وفي حال تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً بالفعل، دعماً للحكومة العراقية، فعليها أن تعرف أن ذلك التدخل سيكون على الجانب المعاكس للعديد من الشبكات العربية التي تؤيد الانتفاضة السورية.
لا يأتي ذلك لأنهم يدعمون الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش”، التي كانت دائماً في حالة حرب مفتوحة مع معظم الجماعات الثورية الأخرى في سورية. وإنما يأتي ذلك فقط لأنهم لا يرون في “داعش” القضية الأساسية. ويؤيد العديد من أكثر العرب الداعمين تحمساً للثوار السوريين ما يرونه ثورة شعبية عراقية ضد حاكم مستبد طائفي مدعوم إيرانياً. وهم يساوون الانتفاضة العراقية بالانتفاضة السورية، بوصفها ثورة سنية ضد دكتاتور شيعي، ويعارضون بنشاط أي تدخل أميركي أو عربي ضدها. ولذكر مثال واحد فقط، كان الواعظ الإسلامي الكويتي حجاج العجمي، الذي كان واحداً من أبرز جامعي الأموال لجماعات الثورة السورية، قد حاجج مراراً ضد دعم “التحركات التي تقوم بها أميركا وإيران لمواجهة الثورة العراقية”.
يبدو أن هذه وجهة نظر شعبية، على الأقل بين تلك القطاعات من الجمهور العربي المستثمر أكثر ما يكون في دعم التمرد السوري. وقال البروفيسور السعودي أحمد بن راشد بن سعيد، الذي يرسل تغريداته إلى 350.000 من الأتباع من حسابه loveliberty@: “يجب علينا دعم سنة العراق، ليس فقط لأنهم يمثلون الوجه العربي والإسلامي للعراق، وإنما لإنقاذ سورية ووضع حد لإيران وحماية الخليج”. كما حذر سفير قطري سابق مؤخراً من أن تدخل الولايات المتحدة نيابة عن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي سوف ينظر إليه على أنه حرب ضد كل السنة. كما لخص الصحفي القطري فيصل بن جاسم آل ثاني خطوط الصراع الجديدة بمصطلحات صارخة: “إن حزب الله والولايات المتحدة ودولة الامارات العربية المتحدة كلها في خندق المالكي، في حين أن الشعوب والعلماء والشرفاء يقفون مع الثورة”. (دولة الإمارات العربية المتحدة سحبت منذئذ سفيرها من العراق، وتحدث مسؤولوها بلهجة انتقادية بالتأكيد عن المالكي).
تميل هذه الأصوات العربية إلى التقليل من دور “داعش”، وتؤكد بدلاً من ذلك على قاعدة الدعم العريضة للتمرد العراقي. وقد أرسل العجمي مؤخراً تغريدة إلى أتباعه البالع عددهم 443.000، والتي يقول فيها إن “ما يحدث في العراق هو ثورة الشعب ضد الظلم والاستبداد، وإن محاربته من خلال “داعش” يقصد منه توفير الغطاء لضرب الثورة وإحباطها باسم الحرب على الإرهاب.” ولاحظ مذيع محطة الجزيرة الذي يحظى بالشعبية، فيصل القاسم، مؤخراً في تغريدة لأتباعه البالغ عددهم 1.5 مليون على تويتر أن الثورات السورية والعراقية كانتا أمثلة على “إلباس ثورة شعبية ملابس إرهابية، وبالتالي شيطنتها وفتح النار عليها”. وعلى سبيل المثال، يدعم عضو البرلمان الكويتي السابق وليد الطبطبائي “الثورة العراقية” بينما يحذر من أن داعش “فيها بعض الناس الأخيار، لكنها مخترقة من قبل إيران” وأن “الفاسدين في سورية لا يمكن أن يعملوا لمصلحة العراق.. سوف يطعنونك من الخلف.”
تشكل “داعش” خطراً حقيقياً بلا أي شك، وهي منظمة مقاتلة محنكة وذات خبرة، والتي تنتهج أيديولوجية واضحة، وموارد مالية يعتد بها، وقدرة بائنة على اجتذاب مقاتلين أجانب إلى قضيتها. لكنه لا ينبغي تجاهل هذه الرواية العربية المناقضة. ويستدعي الاختلاف الكبير بين نقاش أميركي يركز حصرياً على “داعش” ونقاش عربي يركز على ثورة سنية واسعة النطاق، وبقوة، ذلك الخطاب المشوه بنفس المقدار خلال السنوات القليلة الأولى من احتلال الولايات المتحدة للعراق. فمنذ العام 2003 وحتى 2006، غالباً ما اختزل المسؤولون الأميركيون والإعلام الأميركي التمرد العراقي في شخص “القاعدة، وبقايا النظام، مبالغين بذلك كثيراً في تقدير أهمية القاعدة في العراق، بينما يقللون من شأن المظالم السياسية في حق المجتمع السني ويفوتون الفرص لإحداث انقسام في معسكر التمرد. وقد ساعدت ردات الفعل العسكرية العنيفة التي بلا تمييز، والتي استرشدت بهذه الآراء، في صب الوقود على نار التمرد.
لم يعمل مهندسو “الزيادة” على جلب المزيد من الجنود الأميركيين إلى العراق والشروع في أعمال مختلفة لمكافحة التمرد فقط، وإنما تحركوا أيضاً مبتعدين عن هذا التبسيط المفرط، وشرعوا في تحقيق فهم أفضل للشبكات القبلية والسياسة المحلية والفصائل المسلحة المتنوعة التي يتكون منها التمرد. وعندئذ، سمح هذا التحسن المفاهيمي للقادة المبدعين الخلاقين، المتمتعين بالمتمكين من فريق الجنرال ديفيد بترايوس، بالعمل بفعالية مع السنة الذين أصبحوا متحررين من الأوهام حول تنظيم القاعدة في العراق. وقد صنعت تلك “الصحوات” الفرق الحاسم في محافظة الانبار. وشمل أولئك المنضمون إلى حركة الصحوة العديد من الفصائل القومية والإسلامية التي كانت تقاتل ضد الاحتلال قبل وقت قصير جداً. ووضعت الولايات المتحدة الكثيرين منهم على سلم المرتبات باسم “أبناء العراق”؛ وقد أسهمت معاملة المالكي الخشنة لهؤلاء بعد رحيل الولايات المتحدة في أواخر العام 2011 في تغريبهم وإقصائهم وشكلت جزءاً من الخلفية الأعمق للأزمة الحالية.
بذلك، يكون مما يشي بالكثير أن الشخصية السنية العراقية القبلية البارزة، علي حاتم السليمان، يتحدث الآن عن “ثورة قبلية” ضد حكومة المالكي. وكان سليمان واحداً من القادة الأكثر بروزاً في حركة الصحوة. ومن الصعب القول كم هو عدد الرجال من الصحوات، من رجال القبائل إلى أعضاء فصائل التمرد من البعثيين السابقين، يقاتلون الآن إلى جانب “داعش” أو كم ستدوم العلاقة بينهم. لكنه يبدو أن هناك البعض منهم يقاتلون إلى جانبها بالتأكيد. وقد لاحظ المحلل الاسلامي مهنا الحبيل بالمثل أنه في حين أنه “ليس كل الحركات والفصائل المقاومة في العام 2003 هي جزء من هذه الحركة، والتي كانت الأقوى في مقاومة الاحتلال”. وينبغي أن تدفع إعادة تحالف هؤلاء المقاتلين السابقين من الصحوات مع “داعش” مؤيدي فكرة تسليح “الثوار السوريين المعتدلين” إلى التوقف وإعادة التفكير. فإذا كان أعضاء الصحوات، الذين قاتلوا إلى جانب الجيش الأميركي وتلقوا الدعم المالي والعسكري والسياسي الهائل لسنوات، يمكن أن ينقلبوا، فمن الذي يستطيع أن يضمن أن المتمردين السورية الذين يتلقون دعماً أقل مباشرة بكثير لن يفعلوا؟
ينبغي أن لا تؤخذ هذه الروايات العربية عما يحدث في العراق بقيمتها الظاهرية، لكن الاستماع إليها بعناية قد يساعد على تجنب غزوة أميركية تعيدنا مرة أخرى إلى العراق وتأتي بنتائج عكسية. في داخل العراق، سوف يعزز تمرد سني عريض القاعدة، والذي يحظى بدعم من القبائل من غير “داعش” والفصائل المسلحة، سوف يعزز أطروحة أن دفع المالكي إلى القيام بمصالحة سياسية جادة قبل تقديم المساعدات العسكرية هي السياسة الصحيحة (بتريوس يوافق على هذا). صحيح أن التخلص من المالكي قد لا يحل مشاكل العراق، لكنه لن يتم التغلب على الأزمة من دون إحداث تغييرات كبيرة، والتي يبدو من المستبعد جدا أن يحدثها هو (ولن يثق أحد بوعوده للقيام بذلك بعد أن تمر الأزمة). وليست الفكرة استرضاء “داعش”، والتي يمكن أن تهتم أقل بمثل هذه الأمور، وإنما كسر التحالف بين “داعش” وبعض حلفائها الحاليين من السنة العراقيين من خلال منحهم سبباً لاختيار العودة مرة أخرى إلى نظام سياسي فقدوا الإيمان به إلى حد كبير. أما الغارات الجوية والدعم العسكري للمالكي وحدها من دون التقديم المسبق لتغيير سياسي حقيقي، فيرجح أن تدفع فقط بالفروع المختلفة من التمرد أقرب إلى “داعش”. وليس الإصلاح السياسي بنداً مترفاً يمكن تأجيله إلى حين يكون تنفيذ العمل العسكري الحقيقي قد أنجز -إنه المفتاح لإعادة فصل “داعش” مرة أخرى عن تلك القوى السنية الأكبر والأقوى.
فيما وراء العراق، ينبغي الاعتراف على الأقل بالتأييد العريض الذي يحمله الداعمون العرب للثوار السوريين لما يرونه ثورة عراقية. وتقترح هذه الآراء على الأقل ترجيح أن تكون آثار تدخل في العراق على الانتفاضة السورية أقل خطيّة بكثير مما سيتوقع الكثيرون في الوقت الراهن، وأن واشنطن لا ينبغي أن تتوقع الكثير من الدعم العربي الشعبي والرسمي إذا ما قامت بعمل عسكري تحت ذريعة الدفاع عن المالكي ضد “داعش”.
الغد الأردنية