بذريعة محاولة اغتيال سفيرها في لندن، شلومو أرغوف، حشدت “إسرائيل” في العام 1982 ضعف عديد القوات التي واجهت بها مصر وسوريا في حرب العام ،1973 وشنت حرباً مبيتة على لبنان للقضاء على قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية . وبذريعة حادثة أسر اثنين من جنودها، شنت “إسرائيل” في العام 2006 حرب تدمير مبيتة على لبنان للقضاء على المقاومة اللبنانية، حسب ما أعلنت حكومتها بقيادة أولمرت آنذاك، و”فتح طريق بناء شرق أوسط جديد من البوابة اللبنانية”، حسب ما أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، كوندوليزا رايس . هنا مجرد مثالين من أمثلة كثيرة، لسنا بصدد حصرها، للتأكيد على أن حادثة اختفاء ومقتل ثلاثة مستوطنين إن هي إلا ذريعة لما يقوم به، منذ 13 يونيو/ حزيران الماضي جيش الاحتلال الصهيوني، تسانده عصابات المستوطنين الفالتة من كل عقال، من عملية عسكرية مبيتة واسعة ومتدحرجة لإدماء واستباحة والتنكيل بالمدنيين والأطفال والمسنين من سكان الضفة، وإمطار قطاع غزة بغارات جوية متصاعدة، لتحقيق أهداف سياسية، في مقدمتها إعادة الانقسام الفلسطيني، وللدقة إعادة فصل الضفة عن غزة، إلى مربع ما قبل تشكيل حكومة التوافق الوطني المتعثرة لأسباب داخلية، أهمها افتقادها برنامجاً سياسياً واضحاً ومتفقاً عليه . أما لماذا؟
لئن كان فصل الضفة عن غزة جزءاً من استراتيجية سياسية ثابتة لحكومات الاحتلال كافة، فإنه تحول إلى أولوية من أولوياتها، حتى قبل تورط قيادتيْ “فتح” و”حماس” في خطيئة الاقتتال الداخلي على “سلطة فلسطينية” محدودة ومكبلة وشقها إلى “سلطتين”، واحدة في الضفة وأخرى في غزة . إذ منذ انتهى العمر الزمني لتعاقد “أوسلو” في أيار 1999 من دون التوصل لاتفاق حول “قضايا الوضع النهائي”، بل ومن دون تنفيذ جوهر بنود “المرحلة الانتقالية”، ومنها “إيجاد ممر آمن بين الضفة وغزة”، ثبت أن حكومات الاحتلال ليست في وارد الاعتراف بالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية: إقامة دولة فلسطينية في الضفة وقطاع غزة . وبفشل مفاوضات كامب ديفيد، ،2000 ثبت أكثر تشبث حكومات الاحتلال بمواقفها الاستراتيجية الثابتة تجاه جوهر الصراع، أو ما يسمى “قضايا الحل النهائي”: اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والمياه، ما أدى إلى اندلاع “انتفاضة الأقصى”، وانفراط تعاقد “أوسلو” بالمعنى الميداني للكلمة .
هنا استغل شارون، رئيس حكومة الاحتلال آنذاك، إعلان الولايات المتحدة “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث 11 سبتمبر ،2001 للقيام بخطوتين أنهتا عملياً تعاقد “أوسلو” بالمعنى السياسي للكلمة، هما: الاجتياح العسكري الشامل للضفة المساوي لإعادة السلطة الفعلية فيها ل”الإدارة المدنية”، وفك الارتباط العسكري والاستيطاني مع غزة من طرف واحد المعادل لسحب الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ك”شريك مفاوض” على مصير الضفة وغزة كوحدة سياسية وقانونية واحدة . لم يجرِ الإفصاح عن ذلك، لكن نتائج جولات المفاوضات اللاحقة لخطوتيْ شارون أكدت أن حكومات الاحتلال تريد تكريس ضم القدس، وتأبيد “المرحلة الانتقالية” في الضفة، وفصل الأخيرة عن غزة . كل ذلك عبر مواصلة التفاوض لأجل التفاوض، وفرْض “تنسيق أمني” مجاني، و”تهدئة” من طرف واحد، بهدف كسب المزيد من الوقت لتعميق الاحتلال، والتغطية على استباحاته الميدانية الشاملة والمتصاعدة لفرض شروط سياسية تعجيزية، بينها “إرجاء البحث في مصير قطاع غزة إلى حين”، حسبما صرح علناً الرئيس الأمريكي، أوباما، في نهاية العام الماضي . ماذا يعني الكلام أعلاه؟
التصعيد العسكري “الإسرائيلي” الجاري في الضفة وغزة هو عدوان مبيت بأهداف تتجاوز “ضرب حركة حماس”، المتهمة- من دون دليل قاطع – بحادثة اختفاء ومقتل المستوطنين الثلاثة، ما يوجب على أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية، بمستوييها الرسمي والشعبي، التشبث بحكومة التوافق الوطني، وتسريع تنفيذ بقية بنود اتفاق إنهاء الانقسام، والتوحد لصد العدوان، والمطالبة بحماية دولية مؤقتة للشعب الفلسطيني على طريق إنهاء الاحتلال وانتزاع الحقوق الفلسطينية المشروعة في الحرية والاستقلال والعودة . إذ لئن كان مهماً رؤية هذا التصعيد في إطار أن حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو هي أكثر حكومات “إسرائيل” تطرفاً، فإن الأهم هو رؤية أن تطرف هذه الحكومة ليس نبتاً شيطانياً، بل قفزة نوعية في سياق تطور منظومة أيديولوجية صهيونية تحرك “إسرائيل” وتحكمها وتتحكم فيها، من رأسها حتى أخمص قدمها، سياسياً وعسكرياً وأمنياً وحزبياً ومجتمعياً وإعلامياً، ما يجعل قادتها في غير وارد إنهاء احتلالهم للضفة وغزة، بل ويدفعهم للاعتقاد بإمكان فرض الاعتراف ب”دولتهم” غير محددة الحدود “دولة للشعب اليهودي”، والحفاظ عليها “دولة قلعة” مارقة ومفروضة بالعدوان والتوسع، ما يوجب على طرفيْ حكومة التوافق الوطني الفلسطيني المبادرة فوراً إلى إجراء حوار وطني شامل للبحث جدياً في أسس الاتفاق على برنامج سياسي وطني جامع به يمكن التصدي للتصعيد السياسي والميداني “الإسرائيلي”، وضمان عدم التراجع عن خطوة تشكيل حكومة التوافق الوطني المستهدفة ليس بحد ذاتها، بل لإعادة فصل الضفة عن غزة إلى مربع ما قبل تشكيلها .
عليه، وبمعزل عن متى وكيف ستنتهي هذه الجولة من جرائم الاحتلال الصهيوني، وبمعزل عن ارتداداتها على حكومته القائمة غير الغافلة عن أن تصعيد جرائم جيشها وفظاعات مستوطنيها يعني تصعيد المقاومة الفلسطينية، فإن هذه الحكومة وكل حكومات الاحتلال اللاحقة لن تكف عن شن المزيد من الاعتداءات والحروب، ذلك لأننا لسنا إزاء حكومة يمينية عنصرية متطرفة وُلدت فجأة، إنما حكومة أنتجها نظام صهيوني عدواني توسعي من مقتضياته إفراز حكومات تشن الحروب وترفض التسويات السياسية للصراع . هنا يكمن المدخل الصحيح لفهم الأسباب والأهداف الفعلية لجميع حروب “إسرائيل”، بما فيها الدائرة رحاها منذ ثلاثة أسابيع في الضفة وغزة بذريعة حادثة المستوطنين الثلاثة الذي تتحمل حكومة نتنتياهو مسؤولية اختفائهم ومقتلهم لأنها ترفض إنهاء الاحتلال أصل كل داء، وأساس كل بلاء، كاحتلال استيطاني احلالي عنصري يستبيح كل ما هو فلسطيني، ولن يرحل إلا إذا تحول إلى مشروع خاسر بالمعنى الشامل للكلمة . خذوا آخر تقعليات نتنياهو لرفض إنهاء الاحتلال، حيث أضاف ل”خطر” “النووي الإيراني” كذريعة لاقتطاع منطقة الأغوار، خطر “داعش” كذريعة لاعتبار أن الأمن القومي “الإسرائيلي” يبدأ عند الحدود الأردنية العراقية وينتهي عند شواطئ البحر الأبيض المتوسط .
عن الخليج الاماراتية