يزيد استمرار الأزمة السورية احتمالات التوتر في لبنان، مع دخول متجدّد للدور السعودي على خطّي بيروت ودمشق. احتمالات لم يبدّدها استقبال الرياض لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي
يُشغل لبنان بقانون الانتخاب وتفاصيل النقاشات العقيمة حوله. لكن هذا لا يعني أن أحداث سوريا توقفت، وأن حروب سوريا الصغيرة والكبيرة لن تؤدي الى احتمالات زعزعة الاستقرار في لبنان الذي يواجه، في عام واحد، استحقاق المحكمة الدولية والانتخابات النيابية وكل ارتدادات الأزمة السورية، وأوّلها قضية النازحين المتفاقمة. ثمة مقولة يردّدها سياسي لبناني هي أن حرب لبنان بدأت ببوسطة عين الرمانة، لكنها على مدى ثلاثين عاماً تبدّلت وجوهها وتغيّرت هوية أحزابها والمتقاتلين فيها. حتى إن كل جولة عنف كانت تنتهي باتفاق سياسي مرحلي يتبدل بحسب هوية الرابح والخاسر. اليوم تعيش سوريا على الإيقاع نفسه، فما أشعل فتيل الأزمة السورية ليس هو نفسه الذي يبقيها مستمرة حتى اليوم، بوجوه مختلفة وأدوات صراع جديدة حتى على البيئة السورية نفسها. وإلا فما معنى أن تكون اليوم جبهة النصرة وحدها تتصدّر عناوين الإعلام الغربي، فيما يتراجع الاهتمام بالأحزاب العلمانية والشخصيات المستقلة، وحتى بالإخوان المسلمين مع تقدمهم على سواهم من القوى المعارضة، وسط تصدع وانقسامات أحزاب المعارضة السورية؟
حتى التعامل الدولي مع الأزمة السورية كان مختلفاً عن غيره من أزمات الربيع العربي. في تونس كان القرار الدولي برحيل الرئيس زين العابدين بن علي واضحاً منذ اللحظة الأولى، وها هو اليوم يعيش في السعودية حراً طليقاً. أما في مصر فبدا هامش مناورة الرئيس حسني مبارك أوسع قليلاً، إلى أن قال الرئيس الأميركي باراك أوباما كلمته، فسقط مبارك. في ليبيا كان القرار بالتدخل العسكري حاسماً إلى أن قتل الرئيس معمر القذافي. أما في سوريا فأقصى ما قيل للرئيس السوري دعوة إلى التنحّي بنفسه. لا تدخل عسكرياً ولا قرار بإسقاطه. وعلى هذا الإيقاع تستمر الأزمة السورية ومعها أزمة لبنان.
اليوم، ومع بدء الولاية الثانية للرئيس الأميركي، ثمة من يستعيد خطاب القاهرة الذي على أساسه أرسى أوباما مفهوماً أميركياً مغايراً لما طبع العهد الجمهوري، بعدم التدخل ميدانياً في الأحداث، ولا سيما منها في الشرق الأوسط. وإذ تستند الادارة الاميركية الى فريق أوباما الجديد، المنسجم مع رؤية خطاب القاهرة، فإن في لبنان من بدأ يتحدث عن انفتاح الازمة السورية على شهور طويلة من الصراع، بما يشبه حقيقة الحرب اللبنانية، حتى في أصغر تفاصيلها، من مبادرات السلام والتدخل العربي وصولاً الى ميدانيات الحرب، كخطوط التماس والصراع الطائفي والمذهبي.
ففي سوريا يترسخ فعلياً «ستاتيكو دموي»، بعدما أخذ إطاره الفعلي قبل أشهر، وهذا الواقع هو الذي جعل النظام في موقف دفاعي لا يسمح له اليوم بشن هجومات على المواقع التي سيطرت عليها المعارضة. وهو أيضاً ما جعل المعارضة، التي باتت قدرتها على الهجوم ضعيفة، تنكفئ عن شنّ هجومها التي روّجت له على دمشق، لتنحسر المواجهات حالياً في الضواحي الدمشقية والمناطق التي تشكل المداخل الحيوية للإطباق على العاصمة.
لكن انفتاح الأزمة السورية على شهور طويلة من المواجهات، بعدما تراجعت احتمالات الحل التي لاحت بعد لقاء وزيري الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون والروسي سيرغي لافروف في جنيف، يعكس أولاً وآخراً واقع الهلال الشيعي، الذي سبق أن تحدث عنه العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني، بعدما بدأ يتكرس تعدد الازمات السياسية والدموية من العراق الى سوريا ولبنان، فيما يعكس حدة الصراع الذي تواجهه إيران في المنطقة.
فالصراع بين إيران والسعودية يأخذ كل يوم شكلاً جديداً وحاداً، بعدما فشل السعي العربي والمصري في إدخال السعودية في محور إقليمي من خلال اللجنة الرباعية، ولا سيما بعدما كثر الكلام عن دفع سعودي مطّرد لدعم الجهات الإسلامية المتشددة في سوريا، وبعدما أعادت ضخ المساعدة الميدانية للمجموعات السنّية الموالية لها في وجه الشيعة وإعادة تزخيم الصراع في العراق. في المقابل لا يتخذ الصراع مع إيران وجها متشدداً على خط المحور التركي والقطري والمصري (في ضوء زيارة الرئيس أحمدي نجاد المقبلة للقاهرة)، الذي يحاول فكفكة العقد الإقليمية ونزع فتيل التفجير من المحاور الساخنة، لا سيما أن تركيا لا تتفق مطلقاً مع السعودية في مقاربة هوية الحركات الإسلامية ودورها، وكذلك قطر ومصر اللتان تحاولان تعويم الإخوان المسلمين في وجه التنظيمات الاصولية التي تدعمها الرياض في سوريا وغيرها.
وصراع السعودية _ إيران حول سوريا وكيفية مقاربة الأزمة فيها من خلال تمسك الأولى بإسقاط الرئيس السوري واعتبار الثانية أن الأسد خط أحمر، من شأنهما، في ظل الانكفاء الغربي وتحديداً الاميركي عن الدخول المباشر على خط الازمة السورية، أن يؤديا إلى زيادة عوامل التوتير في دول الهلال الشيعي، وبينها لبنان المفتوح على كثير من الاحتمالات.
ولا يبدو في ظل المشهد الانتخابي اللبناني أن ثمة من ينظر الى الأزمة السورية التي يمكن أن تطول كأحد مسبّبات خربطة الوضع الداخلي، بدل الرهان عليها من أجل أن يتمكن كل فريق من تثبيت موقعه السياسي. ولعل هنا أهمية زيارة النائب وليد جنبلاط لموسكو ومن ثم لباريس، الذي قد يتفرّد بجدية بمحاولته استباق آفاق المرحلة المقبلة، ولا سيما أن موسكو من خلال رعايتها لإيجاد حلول على مستوى سوريا والمنطقة، تبدي خشيتها على مصير الأقليات فيها. وهنا مكمن خوف جنبلاط، مع اشتداد الضغط الإسلامي على المناطق الدرزية، حيث تلعب الجغرافيا عاملاً سيّئاً ضدها، تماماً كما مناطق الأقليات المسيحية، بخلاف العلويين والأكراد حيث تساعدهم الجغرافيا السورية في حماية وجودهم. لذا جاءت محاولة جنبلاط لحماية الأقلية الدرزية عبر موسكو، فيما لا يزال مصير المسيحيين فيها من دون رعاية سياسية، تعكسها الضعضعة المسيحية في لبنان. وهو أمر يعوّل البعض على فرنسا في احتمال تولّيه كملف ساخن مع قادة مسيحيي لبنان الذين تلتقيهم، وأوّلهم الرئيس أمين الجميّل في زيارته المقبلة لباريس.
والخوف الذي تعكسه التقاطعات السعودية ــــ الايرانية في ساحات التوتر بينهما، يكمن في أن يقبل لبنان على احتمالات توتر يعكسها دخول الطرفين على خط الأزمة بقوة. لذا لم يثر استقبال ولي العهد السعودي سلمان بن عبد العزيز ووزير الخارجية سعود الفيصل لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي ارتياحاً، ولو بحدّه الأدنى، لدى بعض الذين يخشون مجدداً أن تكون السعودية في وارد الضغط عليه أو حتى في أسوأ الأحوال دفعه نحو الاستقالة، أو إعادة اللعب بالساحة اللبنانية على أبواب استحقاقات بالجملة.
هيام القصيفي – الاخبار اللبنانية.