أمد/ دولة فاشلة في ليبيا وأخرى ممزقة في السودان وشعب محتل ومستهدف بوحشية بقطاع غزة والضفة الغربية، ودولة من دون خدمات في سوريا واستمرار قوات لتركيا وغيرها على أرضها، والتوترات في لبنان، وعراق يجاهد لاستعادة عافيته أمام تحديات داخلية وتدخلات خارجية إقليمية وأجنبية لم يستطع وقفها أو بترها، وعلاقات إيرانية-خليجية تستمر بينهم النزاعات الحدودية على رغم وجود بعض التحسن، وأوضاع يمنية تبدو أنها إعادة حلقات سابقة من الاضطراب والتفكك في العصر الحديث… إلخ
كل هذه الحالات على سبيل المثال وليس الحصر، تنصب أساساً على ما يمس استقرار الدولة الوطنية والسيادة، مع وجود عدد من القضايا الأخرى والمشكلات والتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي ظل كل هذه المشكلات الخطرة والحساسة، والعالم العربي غير قادر على تبني سياسات فاعلة، أو القيام بمبادرات محركة بالنسبة إليها، ومتردد في اتخاذ مواقف حاسمة ترجح الموقف وتحل الأزمات، أو حتى توقف أو تشكل رادعاً لتجاوزات غير إنسانية فجة لا حدود لها من آخرين، وأقرب الأمثلة لذلك ما تعرض له الشعب الفلسطيني البطل، والقتل والتدمير بين شعب السودان الشقيق.
وتقتضي الأمانة التنويه أننا نشهد بين الحين والآخر محاولات من بعض الدول العربية مثل الجزائر والمغرب ومصر والسعودية وغيرها لوقف التردي في عدد من هذه القضايا، وإنما من دون نجاح دبلوماسي ملموس أو حسم سياسي، لعدم توافر الثقل السياسي الضروري لحسم الأمور، أو نتيجة السعي إلى ترجيح صف طرف على الآخر، في حين أنه يفضل التحرك العربي المشترك في ساحات مختلفة من منطلق المصلحة الوطنية التوافقية، وتأمين الأوضاع الإقليمية بحلول وسط، حتى إذا اختلفت الأولويات بين الحين والآخر واقتصر التعاون بين بعض الأطراف الإقليمية العربية وليس كلها.
ونظراً إلى محورية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي تهمني الإشارة والترحيب بإعلان وزير خارجية السعودية تشكيل “تحالف دولي لتنفيذ حل الدولتين” واستضافة أول اجتماع له قريباً، متمنياً أن تخرج عنه قرارات واضحة وسياسات محددة دعماً للدولتين وفي محاسبة من يعرقل ذلك الحل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن التحركات الإيجابية خارج المنطقة ما قامت به السعودية وإيران في جعل الصين هي الراعي لتفاهمهم الأخير، وإنما لم أرتح على الإطلاق لحاجة الأطراف الفلسطينية الاجتماع بساحات غير عربية للتوفيق الشكلي بينهما والتراجع عنها سريعاً، بعد محاولات عدة سابقة وغير ناجحة في دول عربية.
ولقد آن الأوان أن نصارح أنفسنا بأن الأطراف العربية لم تنجح في حل القضايا الإقليمية الشرق أوسطية أو حتى في ترجيح الكفة لمصلحتهم، على رغم أنها تشكل الغالبية بالمنطقة، وتتبنى مواقف مشروعة، ولم يخف على أحد تعدد مواقف بعض الدول العربية وتناقضها في ساحات عدة من ضمنها ليبيا والسودان وسوريا وإيران واليمن وأمن البحر الأحمر، مما حد من الفاعلية، وطرح تساؤلات جمة وتشكيكاً في المفهوم العربي السياسي دولياً وإقليمياً، حتى بين الرأي العام العربي نفسه.
وبالفعل اهتزت صورة العرب بشدة، خصوصاً نتيجة فشلهم في اتخاذ مواقف مؤثرة إزاء التجاوزات الخطرة والبشعة لإسرائيل في غزة، كان ذلك تجاه إسرائيل ذاتها أو في ما يتعلق بالولايات المتحدة والدول الغربية العديدة المؤيدة لها، أو حتى في المؤسسات الدولية والقانونية، التي كان أشهر المبادرين فيها جنوب أفريقيا وموقفها أمام المحكمة الجنائية الدولية.
سئلت في مناسبات عدة خلال جولاتي الخارجية عن ضعف الموقف العربي، وفي جولاتي العربية استمعت مراراً إلى الملاحظات المتكررة والمؤلمة لشباب أمتنا، بأن المفهوم السياسي للأمة العربية لم يعد له وجود، وأنه يفضل التركيز على العلاقات شبه الإقليمية أو مع أطراف أجنبية غير شرق أوسطية، وهو ما يفتح أبواباً خطرة حول الهوية مستقبلاً.
وبالفعل يشهد المفهوم السياسي التعاوني للعالم العربي تردياً سياسياً شديداً لا مثيل له، ونحن الآن في لحظة بالغة الخطر والصعوبة، لا يصلح معها الاكتفاء بالتنديد والإدانة، أو أي مواقف تنصب فقط على العبارات الرنانة والمهاترات، فالبعض يهمل حتى التشاور معنا كما سبق مع الاتفاق النووي مع إيران، ويلجأ إلينا فقط لإطفاء الحرائق وتجنب تفاقم الأمور، بعد عقود من رفض الاستجابة للمطالب العربية المتواصلة لإنهاء الاحتلال وحل الدولتين.
والمطلوب الآن تحركات ومبادرات هادفة وحكيمة لحل المنازعات، باحترام الخصوصية والاعتبارات الوطنية، بهدف المصلحة والاستقرار الإقليمي، من خلال جهود تعاونية ملموسة، تشمل الدول العربية والوطنية الفاعلة في الساحات المختلفة، سعياً إلى توفيق مواقفهم ومصالحهم حول حلول وسط حتى مع اختلاف الأولويات، لأن الإنجازات الجزئية أكثر فائدة من مساع وطموحات فاشلة حول الحلول الصفرية.
وكفانا مناشدات عامة لدعم من الدول الصديقة، ثم تعايشنا مع ازدواجيته في السياسات والمعايير بالنسبة إلى قضايانا، ومن الأفضل بل من الضروري أن يكون تحركنا هادفاً، والمطالبة بإجراءات محددة في المحافل الدولية والإقليمية وكذلك على مستوى العلاقات الثنائية مع الدول الصديقة.
وأجد أن استمرار النزاع الليبي بين فئات داخلية متناقضة مدعومة بأطراف خارجية رسمية وغير رسمية يهدد بتقسيم البلاد، وله انعكاسات على دول الجوار كافة غرباً وشرقاً وجنوباً وحتى شمالاً عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، لذا أدعو إلى مبادرة مصرية-جزائرية مشتركة مع المبعوثين الدوليين للم الشمل الليبي ووضع خريطة طريق نحو حل النزاع تحت إشراف عربي ودولي للتخطي، حتى إذا احتاج الأمر إلى توفيق بعض سياسات هذه الدول الشقيقة.
وأدعو السعودية ومصر والإمارات إلى توجيه جهودهم لوصول الأطراف السودانية المتنازعة عسكرياً والمجتمع المدني إلى توافقات سياسية ومشروعة، تحافظ على وحدة البلاد، وتوقف الاقتتال وترفع المعاناة عن شعبها، وتوحيد جهود الدول الثلاث للوصول إلى حلول وسط تحافظ على دولة السودان ومؤسساتها، إنما لا تمكن طرفاً سودانياً على آخر.
هذا وبالنسبة إلى الأوضاع في غزة التي يصاحبها الآن اعتداءات لبنان وإيران، وتمسك نتنياهو بأن التفاوض على أية جبهة سيكون تحت غطاء الاقتتال، فلن يكون هناك أي اتفاق قبل الأسابيع الأخيرة من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، حتى يجذب اهتمام اليمين الأميركي ومؤيدي إسرائيل لدعم ترمب عن هاريس.
وعلى العرب رفض أي مواقف تعكس قبولاً رسمياً أو ضمنياً بعودة إسرائيل إلى احتلال أجزاء من غزة، حتى إذا كان ذلك لفترة موقتة، فأي مساس بالشرعية وأسس القانون الدولي لمصلحة واقعية القوة والاحتلال يخلق سوابق بالغة الخطر على أي جهود للوصول إلى سلام فلسطيني-عربي-إسرائيلي، ويجب أن يكون الصوت العربي قاطعاً في هذا السبيل.
تابعت بقلق بالغ تصريحات للمتحدث باسم الخارجية الأميركي أن من حق إسرائيل القيام بعمليات داخل الضفة الغربية، خصوصاً أن هناك تصريحات مماثلة عن حق إسرائيل القيام بذلك في غزة، وبتأمين إسرائيل من أي اعتداءات خارجية من غزة والقطاع وإغفال تام أنها دولة احتلال وتمول التوسع الاستيطاني وعسكرة المستوطنات.
كما مطلوب من الدول العربية اتخاذ موقف واضح وصريح من عرقلة إسرائيل لوقف إطلاق النار، وعليهم مطالبة الدول الصديقة، بأن عليهم وقف الدعم العسكري المختلف لإسرائيل، فضلاً عن التحرك قانونياً في المحافل الدولية والوطنية لمنع ذلك.
وعليهم تنشيط إثارة مخالفات إسرائيل الإنسانية في المحاكم الأجنبية، ورفع نبرة المحاسبة لإسرائيل على المستوى الدولي، من خلال مؤسسات حكومية أو المجتمع المدني.
ويجب على العرب مطالبة دول العالم بتجنب استيراد السلع الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية المحتلة، على غرار ما قامت به بعض دول الاتحاد الأوروبي.
آن الأوان لتحرك عربي سياسي أنشط وأوضح وأكثر فاعلية، بمواقف شجاعة، وبمطالب محددة وأهداف واضحة، دعماً لـجهودنا وتأميناً لمصالحنا، حتى لا تغفل مصالحنا، أو يتطاول آخرون علينا، وتغيب كلية أي مردود سياسي لتحركاتنا، ويفقد شبابنا الثقة والطموح الوطني السياسي المستقبلي.
عن اندبندنت عربية