قال رئيس المجلس الأوروبي إن من لديه صديق مثل ترامب لا يحتاج إلى أعداء، في معرض وصف دونالد توسك لسياسات الرئيس الأمريكي، والتي أحدثت شرخا غير مسبوق في العلاقات الأوروبية الأمريكية، بعد أن هدد ترامب بمعاقبة الشركات الأوروبية التي لا تلتزم بما يقرره من عقوبات ضد إيران، لتنتفض أوروبا للذود عن كبريائها، بعد أن شعرت أن ترامب يريد أن يقودها عنوة إلى حيث يشاء، ولهذا أصبحت دول الاتحاد الأوروبي أكثر تصميما على التمرد ضد سياسة ترامب، والتمسك بالاتفاق النووي مع إيران، وأعلنت لأول مرة أنها ستتخذ إجراءات لحماية شركاتها التي لا تمتثل للتهديدات الأمريكية، وتواصل أعمالها مع إيران، وهو تمرد سيكون له تبعاته على الروابط الاقتصادية القوية بين الولايات المتحدة وأوروبا، وستشجع الصين وحلفاءها على المضي في كسر الهيمنة الأمريكية على المؤسسات والبنوك الدولية، وأن تنشئ منظومة مالية موازية، وتشكيل تحالفات اقتصادية قادرة على إنهاء عصر الهيمنة الأمريكية.
لقد كان خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع بين الدول الخمس الكبرى وألمانيا مع إيران بمثابة زر تفجير الغضب الأوروبي المتراكم ضد سياسات الرئيس الأمريكي ترامب، فقد سبق لترامب أن أغضب أوروبا كثيرا، عندما أعلن الخروج على اتفاقية باريس حول الحفاظ على مناخ الأرض، وعدم التزام الشركات الأمريكية بأي إجراءات تلزمها بدفع أموال لاحتواء مشكلات التلوث الصناعي والأنشطة المضرة بالبيئة، ثم وجه ضربة أشد عنفا بالإعلان عن فرض قيود جمركية على واردات الولايات المتحدة لعدد من المنتجات الأوروبية، حطم فيها أحد أهم مقدسات الرأسمالية العالمية وهي حرية التجارة.
وأظهر ترامب أنه لن يكترث بأية قوانين دولية أو مبادئ يمكن أن تكون عقبة في تحقيق المكاسب للشركات الأمريكية، ولو ضحى بحلفائه الأوروبيين، كما جاء قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ليثير غضب أوروبا من انفراد ترامب باتخاذ قرارات يمكن أن تسبب مشكلات أكثر من أن تقدم حلولا، وعدم استشارة أهم حلفائه في أوروبا والدول العربية المرتبطة بعلاقات وثيقة بالولايات المتحدة، فقد تسبب ترامب في حرج بالغ للجميع، واندفع لتفجير الأزمات، دون أي اهتمام بالنتائج المترتبة عليها، ولهذا ظهرت المسافة واسعة في مجلس الأمن عند مناقشة الاعتداءات الوحشية الإسرائيلية ضد المظاهرات الفلسطينية في غزة، فقد استماتت أمريكا في الدفاع عن الجرائم الإسرائيلية، بينما رأت دول الاتحاد الأوروبي أن ترامب هو من شجع إسرائيل على التمادي في انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين إلى حد الإفراط في قتل المدنيين العزل بلا رحمة، ولهذا وقفت أوروبا مع مطلب التحقيق المستقل في الجرائم الإسرائيلية في مواجهة أمريكا وإسرائيل. كان هدف ترامب من قرار إلغاء الاتفاق النووي مع إيران أن يشكل تحالفا دوليا يفرض حصارا اقتصاديا وسياسيا على إيران، وفرض شروط قاسية تحرمها من برنامجها الصاروخي، ووضع حد لنفوذها في المنطقة.
لكن النتيجة جاءت عكسية، فالعقوبات ستنفذها الولايات المتحدة فقط، ولا توجد روابط اقتصادية ذات قيمة مع إيران، وبدون توافق دولي لن تتمكن من فرض أي عقوبات مؤثرة على طهران، وأعلنت الصين أنها ستوطد علاقاتها الاقتصادية مع إيران، ومع انضمام دول الاتحاد الأوروبي للعصيان على الإرادة الأمريكية تكون قد اهتزت صورة الولايات المتحدة وفقدت الكثير من هيبتها بسبب سياسات ترامب المفرطة في التصعيد والتهديد بفرض العقوبات، بل إن كوريا الشمالية التي كانت قد أبدت موافقتها المبدئية على نزع سلاحها النووي تراجعت، لتعلن رفض أي ضغوط تنال من تسلحها النووي، مشككة في نوايا السياسات الأمريكية، وجمدت مباحثاتها مع كوريا الجنوبية، الرامية إلى خفض التوتر، وإيقاف البرنامج النووي والتجارب الصاروخية لكوريا الشمالية، في الوقت الذي كان يعتقد فيه ترامب أنه على وشك انتزاع نصر تاريخي بنزع السلاح النووي لكوريا الشمالية، وهو فشل ناجم عن حالة انعدام الثقة في احترام أمريكا لتعهداتها.
لقد أظهرت استطلاعات الرأي في فرنسا عدم ثقة الشعب الفرنسي في سياسة الرئيس الأمريكي، وأن الغالبية العظمى ترفض إلغاء الاتفاق النووي، وأصبحت انتقادات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لسياسات ترامب أكثر حدة، وارتفعت الأصوات الأوروبية الداعية لاعتماد سياسة أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة، بل الاعتماد على النفس في السياسة الدفاعية، وخصوصا مع تصريحات ترامب المستفزة عن ضرورة أن تتحمل دول أوروبا أموالا أكثر في موازنة حلف الناتو، التي تشكل القوات الأمريكية النسبة الغالبة فيه، وهي نفس سياسة الابتزاز التي يمارسها الرئيس الأمريكي مع حلفائه في كل مكان، لتتقوض خطط ترامب الرامية إلى حصار روسيا والصين، فعندما يتمرد عليه أقرب حلفائه، فلا يمكن توقع أن يشاركوه في تنفيذ مخططاته، لتكون الولايات المتحدة مرشحة لمزيد من التراجع والانكفاء.
… عن «الأهرام» المصرية