وتدفقت مياه كثيرة بين ضفاف كل الأنهار، حتى جاء «خريف الغضب» سنة 1981، ووقع اغتيال الرئيس «السادات»، وأصبح نائبه «حسنى مبارك» مرشحا لخلافته، وتقرر الاستفتاء على رئاسته، وكانت اعتقالات سبتمبر الشهيرة سنة 1981 قد زجت فى السجن بأعداد من الساسة والنقابيين والكُتَّاب، وراح المعتقلون فى سجن «ملحق مزرعة طرة» ــ وكنت بينهم ــ يتابعون ما يجرى خارج أسوار السجن، لكن مصادر المعلومات كانت شحيحة ومتقطعة داخل هذه الأسوار!!
●●●
وذات يوم فى تلك الفترة جاء إلى سجن «طرة» أحد مشاهير المحامين، وطلب لقاء ثلاثة من المعتقلين، كلا منهم على انفراد: «فؤاد سراج الدين» (باشا) ــ و«فتحى رضوان» ــ وكنت الثالث.
وفى غرفة مأمور السجن وقتها، العقيد «محمود الغنام»، التقى المحامى بكل منا على انفراد، وكان طلبه أن يسلمه المعتقلون السياسيون فى «طرة» بيانا بتأييدهم لانتخاب «مبارك» رئيسا، والإيحاء فيما يطلب بأن ذلك يسهِّل خروجهم من السجن، دفعة مقدمة لحسن المقاصد! ــ والمدهش أن الثلاثة ــ وكل منهم مع الرسول على انفراد ــ أبدوا نفس الرأى بما معناه: أنه لا يليق بسجين الرأى أن يؤيد مرشحا فى انتخابات الرئاسة، خصوصا إذا كان المرشح هو نفسه نائب الرئيس الآن، فذلك ليس مشرفا للسجين، وليس مشرفا للمرشح، لأن حرية الاختيار لا تُمارس من خلف القضبان، كما أن ممارسة الحرية من داخل زنزانة سجن لا تنفع صاحبها، ولا تنفع المقصود بها، لأنها معرَّضة للظنون والشبهات!!
وتم الاستفتاء، وجرى انتخاب «مبارك»، وتلقيت بعدها بأيام رسالة عنه نقلها إلىَّ على تليفون مكتب مأمور السجن الدكتور «أسامة الباز» (وهو المستشار الأول للرئيس الجديد) مؤداها: «أنه تقرر الإفراج عن المعتقلين السياسيين على دفعات، وأن ذلك سوف يبدأ تنفيذه بعد مرور الأربعين (يوما) من وفاة الرئيس «السادات»، والرئيس الجديد يرجو أن نتحمل البقاء حيث نحن (فى طرة) حتى تنقضى الأربعون!!».
●●●
وطلب «أسامة» أن أنقل ما أبلغه لى لمن أرى من رفاق السجن، وحين نقلت رسالة الليل إلى رفاق السجن فى «فسحة» الصبح، تفاوتت ردود أفعالهم.
كان رأى الأستاذ «فتحى رضوان» مستثارا: «إنها خرافة تقاليد القرية»، و«منطق كبير العائلة» يحكم الرئيس الجديد طبقا لعقلية سلفه!!».
وكان رأى «فؤاد سراج الدين» أكثر واقعية: «إن الرئيس الجديد ربما يخشى اتهامه بنقض قرارات سلفه، وأن إبلاغنا رسالة طمأنة مقصودة ــ لنا ولغيرنا».
وعلى أى حال قالها «فؤاد سراج الدين» موجها حديثه إلى «فتحى رضوان»: «لاحظ «أنهم» جميعا فى حالة صدمة، وكلهم فى موقف صعب، ويكفينا ــ الآن ــ أنهم قرروا الإفراج وأبلغونا به، وهذه إشارة واضحة».
وواصل «فؤاد سراج الدين» وكلامه مازال موجَّها إلى «فتحى رضوان»:
«وافرض أنهم أفرجوا عنا فورا، فماذا سنفعل، سوف يكون علينا أن ننتظر ما تتطور إليه الأمور، فإذا كان الانتظار، فلماذا لا يكون الانتظار هنا بدل أن نتوه بعد الخروج فى أحوال مضطربة كنا معزولين عنها ــ خصوصا أننى أتوقع بعد هذه الرسالة أن تتحسن المعاملة، وأن تنتظم اتصالاتنا بالخارج، عندما يجيئون لنا بالصحف، ويُصرحون بالزيارات، وأيضا فإن أبواب الزنازين سوف لا تُغلق علينا طول النهار والليل كما هو حاصل، (باستثناء نصف ساعة للفسحة يوميا)، وهنا سوف يختلف مناخ السجن عما هو الآن».
واحتج الأستاذ «مصطفى الشوربجى» (المحامى الشهير) قائلا لـ«فؤاد سراج الدين»: «لا يا باشا، لا مساومة على حق الحرية».
وكان رد «فؤاد سراج الدين»: عال.. لا تساوم، ولكن قل ماذا تستطيع أن تفعل؟!!».
وكان استمرار الجدل عقيما، لأن المتنفذين ــ خارج السجن ــ كانت لهم الكلمة العليا فى شأن القابعين وراء أسواره!!
والدكتورة نوال السعداوي والدكتور حلمي مراد وفتحي رضاون ومحمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين
●●●
وحين انقضت الأربعون بدأ الإفراج عنا، وارتأى «مبارك» أن يكون إطلاق سراحنا بعد لقاء معه فى قصر «العروبة»، وفى الطريق إلى هذا اللقاء عرضت على أصدقاء المجموعة الأولى من المُفرج عنهم أن يتولى أحدنا الحديث نيابة عنا، حتى نحافظ خلال اللقاء على إطار الاحترام اللازم للمناسبة ولأنفسنا، واقترحت أن يكون المتحدث باسمنا «فؤاد سراج الدين» (باشا) لأنه أكبرنا سنا، وأقدمنا عهدا بممارسة السياسة، ووافق الجميع.
وكان عددنا (أى الدفعة الأولى من السياسيين المُفرج عنهم) ــ حوالى الخمسة والعشرين، وحملتنا سيارة نقل كبيرة من سجن «طرة» إلى قصر «العروبة»، مارة على عنبر المستشفى المخصص للمعتقلين بالقصر العينى، حيث كان بعض من تقرر الإفراج عنهم – تحت العلاج فيه!!
وصافحنا الرئيس الجديد واحدا واحدا، بينما وقف إلى جواره رئيس وزرائه الدكتور «فؤاد محيى الدين»، وعندما جلسنا حوله للحوار معه لاحظت أن الرئيس الجديد يبدى اهتماما بمعرفة رأيى، وقد وجَّه إلىّ الخطاب بوصفى «محمد بيه»، مضيفا: «تفضل» وأشرت إلى «فؤاد سراج الدين» الذى فوَّضناه بالحديث عنا، وكان ذلك السياسى المخضرم ممتازا فى عرضه وفى شرحه، وأظنه كان موفَّقا فيما تقتضيه المناسبة، ولكن «مبارك» التفت نحوى يسألنى إذا كنت أريد أن أضيف شيئا، وشكرته معتبرا أن «فؤاد» (باشا) قال كل ما يريد أينا قوله، (مع أن ذلك لم يمنع رغبة الكلام لدى آخرين ــ وبالفعل تكلم بعضهم وحدث شىء مما تمنيت تجنبه، ومما يفعله الساسة أحيانا عند لقاء الحُكَّام، خصوصا إذا خطر لهم أن يقدموا أنفسهم تعريفا ــ وربما تمهيدا)، ولزمت الصمت مؤثرا الاستماع!!
ومضت أيام ــ خمسة أيام بالعدد ــ ثم تلقيت مكالمة من مكتب الرئيس يقول فيها سكرتيره الخاص وقتها (وأظنه السيد «جمال عبد العزيز»): «إن سيادة الرئيس يدعوك إلى الإفطار معه فى الساعة الثامنة صباح بعد غد، وقد اختار موعدا مبكرا لأن معلوماته أنك تستيقظ مبكرا، وهو فى ذلك «مثلك» يحب أن يبدأ النهار من أوله».
أضاف محدثى: «إن «سيادة» الرئيس أمر بإبلاغى أننى المدعو على الإفطار وحدى» (أى أنه ليس هناك آخرون).
وزاد محدثى بسؤال: «إذا كان يستطيع الاتصال بمكتبى ليحصل على رقم سيارتى حتى يسمح لها الأمن بالدخول إلى حرم البيت».
عندما تلقيت دعوة الإفطار مع الرئيس الجديد، كان فى زيارتى (بمصادفة موفَّقة) صديقان قديمان، وهما الدكتور «أسامة الباز» والأستاذ «منصور حسن»، وكلاهما يعرف «مبارك» معرفة دقيقة، فـ: «أسامة الباز» أقرب المستشارين إليه ــ و«منصور حسن» زامله وزير دولة لشئون الرئاسة فى السنة الأخيرة لحكم «السادات»، وكان «مبارك» نائبا للرئيس، وبين الاثنين (نائب الرئيس ووزير الدولة لشئون الرئاسة) علاقات ملتبسة كثرت حولها الأقوال والروايات.
وقلت للاثنين:
«يظهر أننى سوف أقابل الرئيس الجديد بعد غد، وهذا رجل لم أره إلا فى مصادفات على عكس كليكما، فكل منكما عمل معه عن قرب، وتعرف على جوانب شخصيته». وأضفت: «إننى لا أريد علاقة وثيقة مع رئيس دولة آخر فى مصر، فقد أخذت نصيبى من هذه العلاقات مع «جمال عبد الناصر» من أول يوم إلى آخر يوم من دوره السياسى، ونفس الشىء طوال السنوات الأربع الأولى من رئاسة «أنور السادات» حتى اختلفنا فى إدارته السياسية لحرب أكتوبر، وأنا لم أعد أريد لا صداقات ولا عداوات مع رئيس دولة جديد فى مصر، وما أريده هو أن أحتفظ بحقى فى إبداء رأيى، ومن موقع الصحفى والكاتب ــ وليس أقل أو أكثر!!».
والمعنى أننى لا أريد علاقة خاصة، ولا أسعى إلى صدام، وإنما أريد ومن بعيد علاقات عادية، وهذه فرصة أن أسألكما: «كيف أتعامل مع «صاحبكما» فى هذه الحدود، خصوصا أننى كما قلت أعرف دواعى التزامه بسياسات لا أعتقد فى صحتها، ومن ناحية ثانية فإننى أراه أمامى شخصية أعقد بكثير من انطباع عام لدى الناس أشاع عنه نكتة «البقرة التى تضحك»، بينما هو فى ظنى شخصية أكثر تعقيدا».
ورد «أسامة الباز» على الفور: «بأننى على صواب فى طرح حكاية «البقرة التى تضحك» جانبا، لأنها بالفعل تبسيط لشخصية مركبة».
(لم أقل لهما أننى لمحت مبكرا بعض الجوانب المخفية فى سجل الرئيس الجديد (أى واقعة «الخرطوم»).
واستطرد «أسامة» قائلا: «إنه يعرفنى جيدا، وقد كان فى هيئة مكتبى عندما كنت وزيرا للإعلام ووزيرا للخارجية، ثم اختار أن ينتقل معى إلى «الأهرام» بعد انتهاء مهمة وزارية (محددة المدة والهدف)، ثم ظل معى فى «الأهرام» حتى تركته بعد الخلاف مع الرئيس «السادات»، فعاد إلى الخارجية مستشارا فى مكتب وزيرها «إسماعيل فهمى».
واستطرد «أسامة الباز»:
«إننى عملت معك وعملت مع الرئيس «مبارك» أيضا منذ كلفنى الوزير «إسماعيل فهمى» لأكون مستشارا منتدبا من وزارة الخارجية معه كنائب للرئيس، خصوصا أن «السادات» راح يكلفه بمهام فى الإقليم وفى اتصالاتنا الخارجية، هكذا فإن لى معه الآن أكثر من اثنى عشر عاما».
وأضاف «أسامة الباز»:
ــ وإذن فأنا أعرفك (يقصدنى) ــ وأعرفه (يقصد الرئيس الجديد).
ومضى «أسامة»:
ــ أكرر أنه من الصواب أنك استبعدت تماما حكاية «البقرة الضاحكة»!!
ــ وإذا طلبت رأيى بعد ذلك فلدى ــ أولا ــ ملاحظتان فى المنهج:
أولاهما: «لا تتطرق فى الحديث معه إلى أى قضية فكرية أو نظرية، فهو ببساطة يجد صعوبة فى متابعة ذلك، لأنه أقرب إلى ما هو عملى منه إلى ما هو فكرى أو نظرى، وإذا جرت معه محاولة للتبسيط بالشرح، فإنه سوف يشرد من محدثه، ويتوقف عن المتابعة!!».
والثانية: «أننى أعرف أسلوبك فى الحديث، تستطرد فيه أحيانا، ثم تذهب إلى خاطر يلوح أمامك، ثم تعود إلى سياقك الأصلى بعده. لكن «مبارك» لن يتابعك فى ذلك، كلِّمه فى موضوع واحد فى المرة الواحدة، ولا تدع الموضوعات تتشعب، وإلا فسوف تجد نفسك تتكلم بعيدا، وهو «ليس معك»!
وأضاف «أسامة»:
«تذكر أنه سمع كثيرا ــ أكثر مما تتصور ــ عنك من الرئيس «السادات»، وكثيرا ما سألنى: «كيف كانت صداقتك مع الرئيس «السادات» بهذا القُرب، ثم كان خلافكما إلى هذا الحد؟!! ــ وذلك موضوع أثار فضوله، خصوصا أنه كان يعرف عمق صداقتك مع الرئيس «عبد الناصر»، وكانت درجة هذه الصداقة تبهره، وقد حكى لى أنه تابعك أثناء عملية تحريك حائط الصواريخ إلى الجبهة، عندما كنت وزيرا، وأنه أحس من كل ما تابعه، أنك تتصرف دون أن تنظر وراءك، وهذا يعنى أنك تقف على أرضية «جامدة جدا» (وتذكرت أن هذه هى المرة الثانية التى أسمع فيها نفس الوصف، مرة من «مبارك» مباشرة فى الطريق إلى مكتب «أحمد إسماعيل» (أثناء حرب أكتوبر 1973)، ومرة جديدة الآن نقلا عنه فى ظروف لم أكن أعرف بها!!)».
ثم وصل «أسامة» ثانيا إلى ملاحظتين فى الأسلوب إضافيتين: «هو رجل يعرف «قوة السلطة» حيث تكون، وهذا مفتاح ثالث لشخصيته، ومفتاح آخر قدرته على الاحتفاظ لنفسه بنواياه.. ولذلك أرجوك ألا تحاول استكشاف فكره، لأنك سوف تستثير حذره، والحذر غريزة عنده مرتبطة بفهمه لقوة السلطة!!».
والتفَتُّ ناحية «منصور حسن» وكان يتابع الحديث باهتمام وبابتسامة زاد اتساعها عندما جاء الدور عليه أسأله ــ كان رد «منصور حسن»:
«إنه لن يقول لى شيئا، وإنما يؤثر أن يتركنى أكتشف بنفسى».
وأضاف «منصور حسن» :«كل ما سوف تسمعه لن يهيئك لما سوف تراه، والأفضل أن ترى بنفسك، وبعدها فأنا الذى سوف يسمع منك!».
في الحلقة القادمة :
جولة استكشافية واسعة في فكر رجل حكم مصر 30 سنة .. من العلاقات مع أمريكا وروسيا والعرب وإسرائيل – إلي الصحافة والسيجار!
الشروق المصرية