مع دخول الثورة المصرية عامها الثالث، لا تبدو أي كمية من القمع قادرة على احتواء الضغط المتصاعد المتفجر في عموم البلد في الأسابيع العديدة الأخيرة. وفي الحقيقة، تبدو الاحتجاجات ضد حكومة الإخوان المسلمين التي يترأسها الرئيس محمد مرسي وأنها تكسب الدعم. والحقيقة هي: إن الثورة في مصر هي أعمق وأكثر عظمة من أي أمثلة باسلة أخرى في الربيع العربي.
قال لي صابر، الشاب العاطل عن العمل والذي يبلغ من العمر 28 عاما عندما وصل إلى ميدان التحرير للمشاركة في مظاهرة قبل أيام: “إننا لا نأتي دائماً سوية للاحتجاجات. معظم العاملين لهم عائلات يجب عليهم إطعامها، ولذلك يذهبون إلى العمل. أما الشباب الآخرون من أمثالي، فليس لديهم شيء ليخسروه. لقد أصبح مستقبلنا ماضياً”.
وكما يشرح صابر، فإن التعاطف السياسي بين المواطنين لا يمكن قياسه دائما بتجييش المحتجين، لكن من المؤكد أن الثورة تظل حية.
عندما سقطت دكتاتورية حسني مبارك يوم 11 شباط (فبراير) من العام 2011، انهارت معها هياكل الدولة المتداعية. وكانت المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي تدير نظام مبارك متهالكة تماماً. وقد تعرى نظامه باعتباره طبقة ضئيلة من المسؤولين الفاسدين وأصدقاء العائلة. وحظر حزبه السياسي وحل برلمانه وفكك مجلسه الوزاري، وأصبحت المجالس البلدية مفككة تعمها الفوضى، كما أن بوليسه السري تشتت. ومن المهم أن قيادة اتحاد العمال الوطني لمبارك، المنزوع الثقة اصلا، تحللت أيضاً.
وقد حدثت كل هذه الخطوات تحت ضغط الثورة الجماهيرية. وكان هذا التفكك الكاسح فريدا من نوعه بالنسبة لمصر، وكانت له تبعاته الثورية لأن الفراغ السياسي والمجتمعي ملأه شعب مليء بالطاقة، يرفع مطالب لا تقمعها مؤسسات واحزاب محافظة آسنة. وقد سمع الصوت الموثوق للشعب المصري من دون ضوابط، ليصنع هذا الشكل من سياسة العمل المباشر ضغطاً غير مسبوق من أجل إجراء إصلاحات ذات معنى.
وكان الجيش القوي المكون من 500.000 جندي هو المؤسسة الوحيدة التي بقيت قائمة من مؤسسات مبارك. كما أنها بقيت دون أن تمس لأنها كانت قد تجنبت، تاريخياً، الانخراط في الصراعات مع المواطنين، تاركة ذلك العمل الروتيني البغيض للقوى الأمنية التابعة لوزارة الداخلية المكروهة. ولذلك، ترك الامر للمجلس الاعلى للقوات المسلحة المصرية ليملأ الفضاء السياسي الفارغ. ولم يكن ثمة من بديل معقول يمثل النظام القديم.
لكن، وكما تبين، لم تدم المكانة التي تمتع بها الجيش حتى نهاية العام. فقد تصاعدت الاحتجاجات ضد العنف العسكري والمحاكمات العسكرية التعسفية وتعاظمت إلى أن استولت حكومة الإخوان المسلمين على زمام الأمور في نهاية المطاف في العام 2012.
والآن تواجه هذه الحكومة، وبعد ستة أشهر وحسب من وصولها إلى السلطة نفس المقاومة العنيدة التي سبق وأن واجهها العسكريون.
العمل المباشر يتسيد
على النقاش البرلماني
ومع ذلك، يستمر الكفاح على مستوى عال في مصر، لأن صوت الشعب المتحرر من الضوابط يسمع من خلال تنظيم الاحتجاجات في الشارع، كما أعتقد.
وعلى العكس من ذلك، ساعد اتحاد نقابات العمال الضخم في تونس في قيادة الثورة، وأصبح عاملاً كبيراً بشكل أساسي في اضفاء الاستقرار واعطاء المصداقية للنظام والبرلمان لفترة ما بعد الثورة. والآن، تتعرض هذه الحكومة إلى الانتقاد، مع ذلك، لفشلها في إخراج البلد من الركود الاقتصادي، ولشمولها الكثير من فلول نظام الدكتاتور المخلوع بن علي. وحتى من ذلك، وبالرغم من مشاكلها الراهنة، فقد كانت هناك بالتأكيد فترة من الاستقرار والقبول الواسع للفترة الانتقالية الأولية في تونس، والتي لم يكن لها نظير في مصر أبداً.
وفي الحقيقة، ووجهت الانتخابات البرلمانية الجديدة في مصر في العام 2011 في الحال باتهامات مثيرة للجدل للإخوان المسلمين بالتلاعب. وازداد تآكل سمعة البرلمان المنتخب حديثا بعدما فشل المشرعون في تفعيل حتى أي إصلاح ذي معنى. حتى أن الزيادة في الحد الأدنى للأجور في العام 2011، جاءت عن طريق محكمة وليس من جانب البرلمان. وثمة اتهامات معقولة بأن الحكومة أعاقت تطبيقها منذئذ. ونتيجة لذلك، ثمة الملايين من المواطنين الذين يفتقرون إلى الثقة في المؤسسات الحاكمة التي أعيد بناؤها منذ سقوط مبارك.
المهمات الاقتصادية غير المنجزة للثورة
تترافق المخاوف المتعلقة بالديمقراطية وبالعدالة مع مخاوف متنامية تتعلق بالمطلب الثالث من ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011 -الخبز!
وقد ساء حال الاقتصاد منذ سقوط مبارك. وشهد الجنيه المصري معدل تضخم وصل إلى 7 % منذ كانون الأول (ديسمبر)، وتراجعت معدلات السياحة بنسبة 20 %، وخفضت مساعدات دعم الوقود، وتحدث الرئيس مرسي بحذر شديد في كانون الأول (ديسمبر) عن رفع محتمل لضريبة المبيعات مع خفض دعم الغذاء والسلع وعدد موظفي الدولة، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي لمنح مصر قرضاً (بقيمة 4.1 بليون دولار).
وبالاضافة إلى ذلك، ووفق مؤرخ جامعة ستانفورد البروفيسور جوويل بينين، فإن “الاخوان المسلمين يتبنون نفس السياسات الليبرالية-الجديدة المحبذة لدى نظام مبارك. وكذلك استشراف تطبيق برنامج أكثر توسعية لخصخصة الأصول العامة”.
عندما استشهدت بإحصائيات البنك الدولي التي تدعي بأن 40 % من المصريين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، قاطعني محمد، اختصاصي العلاج الطبيعي في القاهرة والبالغ من العمر 32 عاماً وله ولدان. وقال: “أقل من دولارين في اليوم راهنا! يجب على الأطباء الذين يعملون في مستشفى مثلي، أن يعملوا في ثلاث وظائف، مع أربع أو خمس نوبات عمل إضافية. وحتى مع ذلك، يترتب علي أن أؤجل دفع الفواتير المستحقة علي حتى آخر دقيقة”.
ووافقه صديقه محمود، وهو طبيب أيضاً، وقال: “لقد أصبح الوضع أسوأ حاليا. الأغنياء ظلوا أغنياء، لكن الفقراء ازدادوا فقرا. عندما جاء جون كيري إلى مصر، اجتمع مع مرسي وغيره من كبار القادة، ولم يجتمع مع الناس الفقراء مثلنا. إن الولايات المتحدة تحب أن تدعم أولئك المسؤولين”.
ولدى سؤاله عما إذا كان الناس قد بدأوا يتعبون من كل هذه الاحتجاجات، أجاب محمد: “إننا لن نتعب، لأن شيئاً لم يتغير”.
أما صابر، المحاسب العاطل عن العمل، فتوسع في التفصيل: “لقد اخترنا مرسي واعتقدنا بأن تدينه سيجعله اكثر تعاطفاً وبأنه سيستمع لنا. لكن الوضع أصبح أسواً الآن، بعد ستة أشهر. ولذلك عدنا إلى ميدان التحرير للقيام بثورة أخرى”. وأضاف بوعي تام ردا على أسئلتي عن الحكومة والقوات العسكرية والبرلمان: “يجب علينا أن نفعل ذلك معتمدين على أنفسنا”.
وهكذا، فإن الأصوات التي تسمع في التحرير وفي الاحتجاجات المستمرة في عموم البلاد للمطالبة بديمقراطية اصيلة وبعدالة مجتمعية حقيقية وبتحسينات اقتصادية ذات معنى، تتمتع بصدقية لدى غالبية المصريين أكثر من أيٍ من مؤسسات السلطة، وربما تكون هذه هي هذه الحقيقة التي تحافظ على الثورة في حالة نمو.
لكن التاريخ يعلمنا الدرس القاسي أيضاً، وهو أن مؤسسات الدولة التي تمثل قوى النخبة القديمة، وبغض النظر عن عدم استجابتها، تستطيع أن تتعافى من خلال إخفاء أهدافها، وعبر صنع تسويات مع أطياف من المعارضة التي لا تختلف مصالحها الاقتصادية كثيراً عن مصالحها. وبطبيعة الحال، سيعني هذا يعني مرة أخرى أن غالبية المصريين سيتركون في مهب الريح.
وكبديل، يمكن أن تنهض مصر الجديدة عندما يتحد الشباب والعاطلون عن العمل والنساء والطبقة العاملة، الذين يتقاسمون أهدافاً اقتصادية متشابهة، وعلى المستوى الوطني في قوة سياسية جماهيرية جديدة تجمع بين تجييش العمل الانتخابي والمباشر في تحدي قوة النخبة، باتجاه تأسيس مجتمع ديمقراطي عادل ومزدهر اقتصادياً، والذي يفيد الأغلبية في نهاية المطاف.
سوف يتحدد مستقبل هذا البلد العظيم بالقوة المجتمعية، الدنيا أم العليا، التي ستنجح فعلياً في ملء الفراغ السياسي الذي جعل من ثورة مصر حتى الآن بالغة الفرادة وشديدة القوة.
(كاونتربنتش) ترجمة: عبد الرحمن الحسيني- الغد الاردنية.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: Why Egypt’s Revolution is So Different